قراءة في كتاب (الالحاد وفسخ الزواج) للقاضي قيس عبد السجاد الحسناوي

قراءة في كتاب (الالحاد وفسخ الزواج) للقاضي قيس عبد السجاد الحسناوي

بقلم التدريسية: جمانة جاسم الاسدي            

    في سابقة جريئة تطرق فيها احد الباحثين الرواد في نطاق المنظومة التشريعية الخاصة بالأحوال الشخصية، إلى موضوع شيق ومهم يتعلق بما شاع في عصرنا المترف بحرية التعبير والمتغني بالديمقراطية في غير مواضعها القويمة، والحرية الشخصية بغير ما تتوافق فيه مع المبادئ الاسلامية الصارمة، فالدين الاسلامي وعلى الرغم من أنه دين السلام والمحبة والود والحسنى، إلا أنه يحتوي على عقوبات شديدة اتجاه من يخالفه ضارًا متعمدًا بالغير، وجاحدًا برب الارباب، فمثلما يكافئ المؤمن المحب المُسلِم، يعاقب ما دونه بما يناسبه، حكمة من الله سبحانه وتعالى في تأديبه واتعاظًا لغيره.

   وهنا أمتعنا الباحث القاضي بما استعرضه من حالات نكرانية للوجود الالهي الصادرة من بعض الشباب الطائش او اللاهث خلف الافكار المبهرجة، وما فتئ الباحث أن سلط الضوء على ما يترتب عليه من أثار في العلاقات والمعاملات التي كان قد عقدها احد الملحدين مع المسلمين، وفي أهم صورة لهذه العلاقات هو ما كان منها في عقد النكاح، ومن منطلق كونه مختصًا في المجال القضائي فنجده قد وجد من الدعاوى المرفوعة من قبل بعض الازواج أمام القضاء العراقي مادةً موجبةً للحديث بإسهاب، دون المرور على الحكم فيها مرور الكرام، وهذا لعمري من حرص الباحث على ايلاء الموضوع حقه، ودعوة الباحثين والاكاديميين وطلاب العلم إلى الاطلاع عليه والخوض في غماره ومعرفة ما يلابسه وما ينتج عنه، عبر قراءة قانونية شرعية في دراسة اقل ما يقال عنها مستفيضة مبتكرة.

   فنلاحظه أنه قد خاض في ماهية الالحاد تارةً ليبين معناه وتبيانه وانواعه، واسبابه التي ادت إلى حالة (اللا رب)، فقدمها بدفوع عقائدية نتيجة التبعية للغرب، أو ما يتصوره البعض من هزيمة لموقف العالم الاسلامي اتجاه الهجمات الاوربية الشرسة نحوه، والتعرض للشبهات دون تحصيل ادنى حد من المناعة الفكرية، وجمود الدرس العقائدي واجتراره في نفس الموضوعات التقليدية المتكررة (إلا ما ندر)، وإلى الوهن في الخطاب الديني، ثم يعود تارة اخرى ليعطي اسبابًا ودوافع علمية ناتجة عن انتشار فلسفة مبهرجة ومنمقة يطأطأ امامها ضعيفي الايمان العاجزين عن الفهم العميق للإشكالات العرضية الخطيرة، بالإضافة إلى دوافع اخرى استعرضها الباحث منها حضارية واخرى تربوية ونفسية تعود لطبيعة الشخص والاضطرابات النفسية والشخصية التي يعاني منها، والتي نرى انه كان موفقًا في تناولها.

    ثم ما لبث ان غاص في عمق الالحاد ليستخرج من مكنوناته المفاسد والعلاج ليكون قد استعرض الداء والدواء معًا، بطريقة سلسة ممتعة مشوقة في القراءة، ليجعلنا نؤكد على ما ذهب اليه، ونقتطع بعض ما ذكره اتجاه اهمية التخصيص الايماني العلمي والتمسك بالاعتدال والوسطية وانتهاج التفكير الايجابي وتعزيز روح الحوار في الاسرة مما يشكل هالة من الحماية الاسرية للفرد، بشكل واعً وراقي، مع تأكيده على الالتزام بالخطاب الديني المعتدل وتعزيز ركائز الايمان والعقيدة السليمة لإبراز محاسن الاسلام وكماله، والتصدي لمظاهر تشويهه من قبل المتطرفين، يضاف اليه طرق علاجية اوردها في المسؤولية الملقاة على عاتق المؤسسات الدينية الرسمية والمثقفين والاعلاميين والقيادات رفيعة المستوى في المجتمع، لدرء الاثار الناجمة عن الالحاد والمتجسدة في الانتحار والقلق وفقدان الوازع الرقابي، وهدم الاسرة وتخريب المجتمع بالرذيلة والجريمة وزعزعة امنه العقائدي.

    لم يكتفي الباحث بهذا الاستعراض العلمي المبهر الذي قدمه لنا وفق اضاءات قرآنية لمعالجات سلوكية معاصرة، انما شحذ اقلامه ليكتب في الردة ويبينها لغةً واصطلاحًا وانواعًا واحكامًا وشروط، فيستعرض الآيات الكريمة في اطار تفسيرها الظاهر للعامة والباطن من اهل بيت النبوة (عليهم وعلى نبينا المصطفى السلام)، ويستعرض في هذا السياق ما ذهب اليه العلماء الاجلاء وبعض المراجع العظام من المذاهب الاسلامية المختلفة، فهو لم يؤثر مذهبًا على اخر.

   تطرق في فصله الثالث من الكتاب إلى فسخ عقد الزواج بسبب الردة والالحاد، وهنا استشعرت ويكأنِ قد امتلكت حبةً من لؤلؤ منضود، فقد كان الباحث موفقا في التقصي عن الفسخ وتميزه عن الطلاق، واستعراضه لحق الشارع المقدس في فسخ الزواج (والذي كيفه بتحقق الضر على المصلحة العامة من وجود الفساد في عقد الزواج وبطلانه وبالتالي يعطي الحق للادعاء العام بإقامة الدعوى وفقا لمهامه في المادة الخامسة من قانون رقم 49 لسنة 2017 والتي ذكرت مهام الادعاء العام ولا يوجد حق عام اكبر من مراقبة مشروعية الزواج لأنه سوف يولد اطفال غير شرعيين وهذا من شأنه ان يسبب فساد الاسرة ودمار المجتمع).

    اسهب الباحث في تبيان وتفصيل فسخ عقد الزواج واعتباره من حقوق كلا الزوجين، واستفاض في التعريج على مواقف المحاكم الشرعية في دولًا عربيةً شتى، وابدى اراء القوانين والقضاء في الفسخ فراح يبحر في قوانين دول الخليج العربي حينًا ويجول في قوانين بلاد الشام حينًا اخر، ليعود ويقتفي اثار المشرع العراقي في قانون الاحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959م ليجده قاصرًا عن وجود نص تشريعي يمكن تطبيقه في هذه الحالة، وبذلك يحكم بمقتضى مبادئ الشريعة الاسلامية الاكثر ملائمة، بعد الاحالة وفقا للمادة 1/2 منه، وبالتالي الفسخ يقع لحق الشرع المشار إليه سابقًا، وذلك لحرمة الاتصال بين الزوجين مع فساد العقد.

    وفي هذا المجال يجزم على ان التكييف القانوني الوارد في المادة 372 بفقرتها الخامسة من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969م، تتناسب مع العقاب على الردة على الرغم من ان المشرع العراقي لم يجرمها ولم يعاقب عليها بالإعدام، وهذه المادة تنص على أنه: “من اهان علنا رمزا أو شخصا هو موضع تقديس أو تمجيد أو احترام لدى طائفة دينية…”، ونعلم هنا ان الله (جل سبحانه) ونبينا الامين (صلى الله عليه واله وسلم) وقرآننا المجيد هم موضع تقديس ورموز دينية ممجدة، ولكن العقوبة (الحبس مدة لا تزيد على ثلاث سنوات أو غرامة) لا تتناسب مع الفعل الصادر حقيقةً.

    وان تبدلت الاسماء حديثًا إلا أنه يبدو والله العالم، ان المرتد والملحد وما دونهم (وكل من تسول له نفسه اختيار الكفر بالإسلام وتعاليمه والاستهزاء بالقران الكريم، أو النبي (ص) واهل بيته (ع) والخروج عن الشرع السماوي)، فهم في خانة احكام المرتد التي نص عليها الفقهاء المسلمين قديمًا.

   انتهى القاضي الجليل في ختام كتابه إلى جملة من الوسائل الاحترازية التي تقي المجتمع والاسر المسلمة من افة الالحاد عبر التوعية الملائمة المتنامية مع التطور العصري، ونشر حملات التوعية للشباب لتعميق الايمان في نفوسهم وفتح نوافذ ثقافية للشباب سواء فضائيات، أو منتديات لطرح وتلقي مشكلاتهم واشكالاتهم العقائدية، بالإضافة إلى تشديد التشريع الجنائي بما يمكن لمكافحة الالحاد وانزال العقاب المناسب به مرورا بفتح مراكز لإعادة تأهلين الملحدين في فترة الاعذار قبل ان تتخذ بحقهم أيّ عقاب جزائي.