ظاهرة هبوط المحتوى الأكاديمي

ظاهرة هبوط المحتوى الأكاديمي

إن جُل غاية البحث العلمي تتمحور حول مبدأ أساس وجوهري لا يمكن أن يختلف عليه أثنان من بين قومٍ، تلك الغاية تتمثل بمعالجة المشكلة التي يُثيرها الموضوع والتي أنطلق منها الباحث فيقوم الأخير بتناول موضوعهُ على أكمل صورة مرضية له ولغيره على قدر المستطاع، فينتهي إلى حلولاً بالنهاية، قد تُعالج المشكلة حقًا فيسلم بها من بعدهُ من الباحثين عندما يطالعون موضوعهُ أو يتناولونه كـ بحثًا تعقيبيًا فيما بعد، وقد يجدون عكس ما أتى به من حلول. إن تلك الجهود التي بذلها الباحثين لا يمكن أن تستنقص من الوجهة الأكاديمية أطلاقًا لأنها محاولات أصيلة لها كل الاحترام والتقدير في تأطير المشكلة البحثية التي تبناها الباحث ومساهمته الحقة في إيجاد الحلول لها.

غير أننا ما نجده اليوم مختلف تمامًا، إذ باتت معظم البحوث والرسائل والاطاريح العلمية بل وبعض المؤلفات المطبوعة غير الدورية كذلك، لا تخرج عن مجرد تناقلات لأفكار تعتبر من المسلمات في علم القانون فهي تُشكل مبادئ أساسية ومع ذلك يتناولها الباحث دون أن يؤدي أية جهود في هذا الأمر بمناقشتها مناقشةً حقيقيةً لينتهي إلينا برأيه الذي قد يؤيدها وقد يخالفها فيما يخص موضوعهُ، فكل ما يقوم به الباحث هو نقل تلك الأفكار من حيث ما سبقه من الباحثين إلى بحثهُ فيأتي بها إلينا بعنوانٍ جديد وبمحتوى معروف!، فهو لم يقم إلا باسترجاع موضوعهُ إلى جذورهُ التي أنبثق منها متجاهلاً ما يثيرهُ من مشكلة تحتاج إلى معالجات، وهي الرسالة التي أصبحت على عاتقهُ أن يؤديها إلينا، فيصقل بالتالي موهبته وخبرته طيلة السنوات التي أكتسبها فيضعها في بحثهِ فتزينهُ، ليرى أساتذتهُ تلك الثمرة التي أنتجتها جهودهم المضنية معهُ، وما لهذا الأمر من سرورٌ يسرهم ويثلج قلوبهم.

هذا وبالتأكيد إن تلك المشكلة قد تطورت نتيجة عدم التصدي لها والتغافل عنها وانعدام إيجاد الحلول لمكافحتها، فأصبحت تُشكل اليوم أفةً خطيرةً ومنتشرة بصورة يرثى لها في الأوساط البحثية وسوف تمتد آثارها مستقبلاً وبصورة سلبية جدًا حيث أنها تؤثر على جودة البحث العلمي في بلدنا، إذ أنها بدأت الآن تدق صدور الباحثين الحقيقيين والمتخصصين في مجال البحث، فأصبحت عيبًا في جبين المؤسسات التي تشرف على إخراج تلك الأبحاث العلمية من دون أية مراقبة وتقويمًا سليمًا لها.

غير أننا لا بد أن ننوه في هذا الطرح بأننا بعيدين كُل البعُد عن ما يتبادر إلى الأذهان بأننا نقصد بكلامنا أعلاه على ما يطلق عليهم (حملة شهادات الخارج)، فكلا ثم كلا، لأن العبرة في رأينا هو ليس بالتفرقة حول مصدر تلك الابحاث والرسائل والاطاريح، بل إن العبرة هو بشخصية الباحث والمشرف عليه، فقد يكون الباحث على درجة من العلمية البحثية تؤهلهُ بأن يقدم رسالته أو أطروحته في خارج العراق ليحصل على شهادة معينة عزم على نيلها من تلك المؤسسة مسبقًا، هي حقًا قد تفوق ما يقدمه بعض الباحثين لدينا بالعراق. إذن فأننا بعيدين عن هذا المنطق الذي يقوم بتلك التفرقة بين حاملي الشهادات العليا لأنها يعوزها الدقة والمبالغة في الطرح، وأننا هنا نتناول ذات الباحث وما هو مطلوب من مشرفهُ واللجان التي تُقييم ذلك المجهود. فعلاقة الباحث بمشرفهِ كعلاقة الصغير بأبيهِ، فإذا حاد هذا الأب عن مراقبة أبنهِ لأبتعد أبنهِ عن جادة الصواب، كذلك الباحث إن تركهُ مشرفهِ لأبتعد عن منهجية البحث العلمي مما يجعل بحثهُ يصيبهُ الخطأ الفادح في نظر من يطالعهُ فينظر له باستهزاء، فما ذنب هذا الباحث إذن؟ والذي قد يكون مسرور جدًا وفخورًا بنفسهِ لأنه أستحصل على تلك الشهادة من دون مشقة البحث العلمي مقارنة مع غيره من الباحثين الجادين، غير أننا نتألم عليه حقًا وصدقًا ونشبه حالتهُ بحال الزهرة التي أنكسر ساقها، لأنه بقي على مستواه البحثي المتدني ولن يكون له أساسًا يستند عليه لحل المشكلات التي قد تواجهُ دائرتهُ في العمل.

إذن فأساس تلك المشكلة تتمثل في أن الباحث يستند في اختيار أفكارهُ بناءً على قراءته المتسرعة والضحلة وهي لا تنتج له شيئًا أبدا. فلابد له من قراءة عميقة متعمقة، هادئة متروية، ولمدة تبغيها الفكرة إلى أن تنصهر لديه، وبالتالي يستطيع مناقشتها على أكمل حال ممكن، لأن الباحث ولاسيما المبتدئ يحتاج إلى التأمل والتدبر في تناول موضوعهُ ومن جميع جوانبهُ، حتى يتمكن من الاحاطة بما يجدهُ من أفكار تتعلق بهِ، ثم يقوم بتحليل تلك الأفكار تحليلاً منطقيًا فيسأل نفسهُ بنفسه، هل أن تلك الفكرة التي تدارسها تستحق منه التدوين أم لا تستحق ذلك، فيبعدها هي وأغوارها عن موضوعهُ. فهنا تبرز لدى الباحث ميزة الملائمة والموافقة والمخالفة والمهاجرة للفكرة التي بين يديه. لأن مرحلة تدوين الفكرة من أهم المراحل التي يمر بها الباحث، فهي تُظهر شخصيتهِ بصورة جلية، وبها يتفاوت الباحثون فيما بينهم، لأن أحسنهم من يحسن أختيار الفكرة التي تتعلق بالعنوان مدار موضوعهُ ويترك كل ما هو غير ضروري لذكرها آخذًا في الاعتبار أهمية المعلومة التي بين يديه وعدم إذاعتها ودقة المراجع التي أستند عليها ومدى صلتها بالموضوع، وتجنبهُ التكرار والحشو والحشر في تدوين أفكارهُ للوصول إلى نتيجة محمودة هنالك، عندما يصل إلى خاتمة بحثهُ.

وكثير ما يقع الباحثين في مثل هذه الأخطاء عند الكتابة، وأن هذه الاخطاء هي بسيطة بمقابل ما نذكرهُ في مقالتنا هذه، إذن فيمكن معالجتها بحسب الأحوال، فعندما يقوم الباحث في مرحلتي الماجستير والدكتوراه بتدوين كل ما يحصل عليه من أفكار ففي هذه الحالة يمكن للمشرف أن ينبهُ عن ذلك الأمر ويرشدهُ، ويوضح لهُ بأن ليس كل ما يجده يذكره في بحثه، فقد يعتقد الباحث إن كثرة تدوين المعلومات والعبارات والتي يمكن الاستغناء عنها من دون أن يؤثر على سلامة موضوعهُ الكامل أو فكرتهُ الواحدة، تجعل بحثهُ وافيًا وضخمًا، مما يعيب ما قام به في النهاية فيقلل من قيمتهِ، فعلى الباحث أن يُرجح مصلحة البحث قبل كل شيء يبتغيهِ هو. أما إذا تهاون في ذلك مشرفهُ فعلى المقوم العلمي أن يدون ذلك عند تقويمهِ للرسالة أو الأطروحة، وأن تجاهل ذلك أيضًا ثم رأت اللجنة أثناء المناقشة هذا العيب فلها أن توجه الباحث ومشرفهُ بالمعالجة، وأن تكون تلك المعالجة حقيقية لا شكلية، لأنها لو كانت شكلية لأسست عادة سيئة لدى هذا الباحث عندما يقوم بإجراء أي بحثًا علميًا مستقبلاً. أما إذا كان الباحث قد تمت مناقشة رسالته أو اطروحته في الخارج ففي هذه الحالة يجب أن تُشكل لجان علمية تتولى تقييم تلك الرسائل والاطاريح بصورة جيدة من الناحية اللغوية والعلمية والفكرية، قبل معادلة الشهادة له في الداخل.

كما أن وزارة التعليم العالي يقع عليها العبء الأكبر في توجيه مؤسساتها العلمية بتبني الجدية الكاملة عند إجراء البحوث العلمية، ودقة وتركيز اللجان التي تتولى تقييم تلك الأبحاث عند تقديمها للنشر، فلا تقتصر توجيهاتها على أهمية زيادة أعداد البحوث من دون المعالجة الحقيقة للموضوعات، فلا نعلم ما فائدة الزيادة أو النشر في المستوعبات العالمية إذا لم تكن هنالك رغبة جدية لدى الباحثين بمعالجة مشكلات موضوعاتهم التي يتولون البحث عنها، إذ سيكون نظر الباحث متجهًا إلى كثرة عدد أبحاثه فقط وما سيدره البحث عليه من نقاط في تقييمه السنوي فحسب.

غير أن المشكلة لا تقف عند هذا الحد، خصوصًا إذا كان الباحث يتعامل مع دور النشر مباشرةً دون المرور بالمراحل التقييمية والتقويمية سابقة الذكر، إن هذا الأمر قد لا يشكل خطورة في المؤلفات غير الأكاديمية، إلا أننا لو أخذنا بالمفهوم المخالف لوجدناه يُشكل خطورة فائقة في المؤلفات الأكاديمية؛ لأنه في هذه الحالة لا يوجد أي تقييم لما يدونه الباحث من أفكار داخل مؤلفهُ، وليس هنالك مقوم علمي او لغوي يصوب عملهُ البحثي، وما لهذا الأمر من آثار ضارة على جودة البحث العلمي المطبوع، وهنا لابد من أن تكون هنالك متابعة ومعالجة تشريعية سريعة لهذه المشكلة عن طريق إيراد النصوص القانونية التي تلتزم بمقتضاها دور النشر المتولية على طباعة المؤلفات الأكاديمية، حيث يجب أن تقوم تلك الدور أولاً بإرسال المؤلف إلى لجنة تقويمية مشكلة مسبقًا من قبل وزارة التعليم العالي بمعية الجامعات العراقية كافة، فتستلم تلك اللجنة المؤلف الأكاديمي فتقوم بمراجعته وابداء الملاحظات عليه، وبعد الحصول على نتائج دراسة اللجنة للمؤلف تُعاد النسخة إلى الباحث ليجري التعديلات التي رأتها اللجنة ضرورية ثم تُرسل النسخة المعدلة إلى اللجنة لتتأكد من إجراء كافة التعديلات التي قام بها الباحث وبعدها تعطي الإذن، أما بموافقتها التي تسمح لدار النشر بطباعة المؤلف المقدم من قبل الباحث وطباعته ككتاب يوجه ويروج إلى الوسط الأكاديمي، أو برفضها لانعدام وجود المنهجية العلمية فيه او تلكئ لغته بالأخطاء الاملائية وعدم تصويبها من قبل الباحث، وإذا لجأ دار النشر إلى طباعة الكتاب من دون أتباع الآلية التي رسمها له المشرع فتثار حينها مسؤوليته القانونية.

وليس في ذلك ضرر، بل من الممكن أن يُشكل وسيلة أخرى لجباية رسوم التقييم العلمي لتلك المؤلفات الأكاديمية التي يتقدم بها الذوات الذين لا يملكون الصفة الأكاديمية، أضف إلى ذلك أهمية القيمة العلمية التي سيحظى بها المؤلف بعد التقييم العلمي من قبل المقومين المختصين. وبطبيعة الحال إن هذا يستلزم معالجة تشريعية بالإضافة إلى تعديل بعض القوانين التي لها علاقة بهذا الشأن.

وبالرجوع إلى قانون الإيداع رقم (37) لسنة 1970 النافذ، نجد أن المادة الأولى منه تعرف المصنف بأنه كل مطبوع معد للنشر والعرض. ونصت المادة الثانية من نفس القانون على المصنفات وما في حكمها فهي تشمل الكتب والنشرات والكراريس وغيرها، وكذلك الرسائل الجامعية والاطروحات.

والمادة السادسة منه أيضًا نصت على أن: “1- يتم إيداع المصنف وما في حكمهُ قبل عرضهُ للتوزيع، ويكون الإيداع بموجب وصل”. ولو رجعنا كذلك إلى قانون المطابع المرقم (5) لسنة 1999 النافذ والمعدل لوجدنا المادة (10) تنص على أن: “يلتزم مالك المطبعة أو المحل أو من يحل محله قانونًا: … ثانياً/ عدم طبع أي مطبوع إلا بعد عرضه على دار الكتب والوثائق لغرض فهرسته واستحصال رقم الإيداع القانوني. … رابعًا/ عند فرض الرقابة على المطبوعات، عدم طبع أو إعادة طبع أي مطبوع وعدم صنع الاختام والشارات والطبع بالشبكة الحريرية إلا بموافقة الوزارة وحسب تعليماتها”.

فنلحظ مما تقدم إن المشرع العراقي وبموجب البند الرابع من المادة (10) قد تنبئ بحال لو وجد قيد في المستقبل على المطبوعات، ففي تلك الحالة لا يتم طباعتها إلا بعد الحصول على موافقة الوزارة المعنية وحسب التعليمات التي تصدرها بشأن تنظيم ذلك القيد الذي فرضتهُ.

نعتقد بأننا في العراق بحاجة ماسة إلى تشريع قانون يصون رصانة المطبوعات الأكاديمية، وليكن قانونًا شاملاً ينظم به المشرع الموضوع بصورة أكثر دقة وتماسك. ولكن ما ذكرناه يمكن أن يُستثنى منه بعض الفئات خصوصًا من حملة الألقاب العلمية، وفق آلية معينة ترسمها وزارة التعليم العالي وهي الجهة التي تكون ذات الاختصاص بموجب القانون.

جمانة جاسم الأسدي 

علي قاسم الحمداني