التدريسية / جمانة جاسم الاسدي

كلية القانون / جامعة كربلاء

   في حقيقة الامر ان العدة، ما هي الا المدة المحددة شرعا لانحباس المرأة عن الزواج، والتي تقضيها المرأة بعد الفرقة عن زوجها لطلاقا او وفاة، وقد اتفق الفقهاء على مشروعية العدة وعلى وجوبها على المرأة عند وجود أسبابها ومصداق ذلك في قوله تعالى: (والمطلقات يتربص بأنفسهن ثلاثة قروء…)( سورة البقرة الاية 228 ) هذا في عدة الطلاق، اما المتوفى عنها زوجها فمصداق عدتها في قوله تعالى: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزوجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا)( سورة البقرة الاية 234)، وعليه فان العدة عن فراق الزوج تتجسد في شكلين منها الاحكام التعبدية ومنها الاجتماعية بحسب ما ذهبت اليه الاحكام الشرعية، فالشريعة الإسلامية وضعت ضوابط للمرأة المعتدة عامة، ولم تفرق بين من كانت جليسة البيت ام موظفة او عاملة، بغية ان لا تقع في محظور.

    الأصل في فترة العدة على المرأة ان لا تخرج من منزلها الا لحاجة أو ضرورة، وقد تنوعت المحظورات الاخرى على المرأة المعتدة واختلفت من مذهب الى اخر ومن عادات بلد الى اخر، وفي البلد نفسه تختلف المحظورات عليها من محافظة او مدينة الى اخرى، وعلى سبيل المثال لا الحصر والتنظير، هو حظرها من التزين ونقدها عند ارتاد الألوان القاتمة منها او الزاهية، وان لا تتحلى بجميع أنواع الحلي ولا تتطيب باي نوع من انواع الطيب، فضلا عن عدم تزين وجهها او عينها باي زينة ، وان لا تفكر برجلا او زواج ، وتكون مستورة قليلة الكلام والمعاملة.

     نستشف مما سبق ان أمر العدة هو حكم تعبدي ممزوج بأحكام تعاملية اجتماعية، ومن الطبيعي جدا أن تتناسب تصرفات المرأة في فترة الحداد او الانفصال بما يتلاءم مع معاني الفرقة المقررة شرعاً لغايات ومقاصد عظيمة أرادها الشارع المقدس من هذه الاحكام، ولا شك ان في طليعة هذه المقاصد هو حماية اللبنة الرئيسية للمجتمع الإسلامي وهي المرأة من كل سوء او أذى او دنس، ولكنها في ذات الوقت منحت رخصة الخروج من المنزل لاجل قضاء حاجاتها الاساسية والحاجات الضرورية التي لا غنى عنها او بغياب المعيل عنها.

    فحق المرأة في العمل يقره الإسلام سواء كانت معتدة ام غير معتدة، والآيات القرآنية التي تجعل العمل جزءاً من العبادة لا تفرق في الخطاب بين عمل المرأة او الرجل منها قوله تعالى: (فأستجاب لهم ربهم اني لا اضيع عمل عاملا منكم من ذكرا او انثى…)( سورة ال عمران الاية 195)، كما لا توجد نصوص قطعية الثبوت والدلالة في القرآن الكريم او السنة النبوية تحدد حظر المرأة المعتدة من العمل، والنصوص التشريعية تؤكد على امكانية انخراط المرأة في مجالات العمل وتمكنها من ذلك من خلال مراعاة التوفيق بين واجباتها الاسرية وعملها كمصدر للمعيشة ووضعها الاجتماعية الجديد في كثير من النصوص، وفي صدد اجازة العدة للمتوفى عنها زوجها نورد ما ذهب اليه قانون الخدمة المدنية رقم 24 لسنة 1960م في المادة 43 او قانون العمل رقم 37 لسنة 2015م في المادة 82 وهي مدد تتفق وتتناسب مع الاربعة اشهر وعشرة ايام التي نص عليها القران الكريم.

   ولكن قد ينظر المجتمع لعمل المرأة وهي في عدتها نظرة سلبية، ويبالغ في احكام العدة الاجتماعية، وخاصةً في الخروج من المنزل والتحدث مع الاجانب، متناسين ان الضوابط والشروط التي وضعتها الشريعة الإسلامية لا تمنع المرأة المعتدة من الخروج للعمل والضرورة، لان العرف ينظر الى المرأة المعتدة نظرة التشدد، وبذلك تكون المرأة بين المد والجزر، ولكن ليس لكل امرأة عاملة انما هذا الوضع ينصب على العاملة المتعاقدة وفق العقد التشغيلي للعاملين في دوائر الدولة العراقية وفق قرار مجلس الوزراء رقم 315 لسنة 2019 والقرار رقم 603 لسنة 1987م، على الرغم من ان العقد الاصلي في بنده السابع ينص صراحة على انه: (يتمتع المتعاقد بالإجازات المنصوص عليها بقانون الخدمة المدنية).

    ثم نأتي لنجد ان التطبيقات العملية في ارجاء الوزارات العراقية اتت متفاوتة امام هذا البند، بين من يمتع العاملة المتعاقدة بهذه الاجازات وبين من لا يجيزها، وهنا تكمن المشكلة وتُسكب العبرة.

  على واقع حاجة المتعاقدة الى اجازة العدة نفسيا (نظرا لسوء الحالة النفسية والمزاجية التي تكون فيها المرأة والحزن الذي يعتريها بفقدها شريك حياتها ووالد اطفالها، واللطف الالهي بها ظاهر في اطالة المدة للمتوفى عنها زوجها بمقابل مدة عدة المرأة المطلقة، الا ان البعض لم يأخذه في الحسبان)، وعلى الرفض العائلي والمجتمعي لخروجها من المنزل في هذه المدة، وبين الزامها قانونيا بالاستمرار في الخدمة العامة!، فبحسب كتاب الامانة لمجلس الوزراء ذي العدد 11689 في 6/5/2021 وقرار مجلس الدولة رقم 26/2022 وكتابي وزارة المالية المرقمين 43387 في 24/12/2006 و6580 في 28/1/2013 تذرعت الوزارات عن منح المتعاقدة هذه الاجازة، كما هو الحال في اعمام وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ذي العدد 11/4/ت/6363 في 19/4/2022م، على الرغم من ان المتعاقدة قد وقعت على عقد يتضمن هذا الحق كما اسلفنا!.

    وعليه نجد ان المرأة المتعاقدة لا تمنح في حال وفاة زوجها إجازة لفترة عدتها، على الرغم من انها حق من الحقوق التي تقره القوانين الوضعية كما في قانون الخدمة المدنية وقانون العمل، بالاضافة الى اقرار العقد المبرم بين الطرفين بتمتعها بكافة الاجازات ومن ضمنها اجازة العدة، وبذلك يكون من بيده الحل والعقد قد جانب الشريعة الإسلامية في احكامها، وخالف المجتمع في عاداته، وعارض ما الزم به نفسه ابتداءً.

    نحن وان كنا مع تمكين وتحرر المرأة من قيود المجتمع واحكام العرف والتقاليد التي يفرضها عامة الناس، ولكننا في الوقت نفسه لا نبيح الضغط على المرأة بما لا تقوى وما من شأنه استزادة الأمها، لذلك نحن يصدد توجيه دعوة صادقة الى الأنظمة المجتمعية والقانونية الى اعادة النظر في عاداتها ونصوصها التي تعيق تمكين المرأة وتحجم من تحقيق ذاتها وتصعب عليها كسب قوتها عبر ارهاقها جسديا ونفسيا بحرمانها حقا مهما من حقوقها العقدية.

   ومع إيماننا المطلق ان المرأة هي قوة التغيير في المجتمع وهي النواة للحياة البشرية، وحضورها في مختلف جوانب الحياة واصرارها على العمل هو تحدي لظروفها، فهي المعتمد عليها لتوفير المعيشة لنفسها او لأولادها بعد وفاة زوجها وغياب معيلها، فندعوها الى ان تجتاز الصعوبات التي تواجهها وتحاول ان تلغي كيانها وتفرض عليها أمور لا تمت بصلة لأحكام الله او لا تتوافق مع ما جاءت به الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية.