تجريم المساس بكرامة العمال في المنظومة التشريعية العراقية

المقال كتب من قبل : الاستاذة جمانة جاسم الاسدي

في خضم الحديث عن الاعتداءات الواقعة على كرامة العامل يتوجب علينا تسليط الضوء على المسؤولية الجنائية لصاحب العمل فنجد أن معظم الدول ، وبصرف النظر عن النظـم التي تقوم عليها ، قد أولت عناية خاصة بتنظيم هذه المسؤولية ، إذ إن مسألة وجود جزاء جنائي يوقع على صاحب العمل عند خرقه الالتزامات القانونية المنصوص عليها في قانون العمل أو الالتزامات التعاقدية الواردة في عقد العمل أمر ضروري ، لأنه يعد حلاً وقائي وردعي يسهم في اجتناب صاحب العمل اتيان مختلف الجرائم العمالية ، ومن هنا بدأت الدعوات تتعالى وتصدح في الاهتمام بتجريم مخالفات صاحب العمل والتأكيد على تطبيقها وعدم الاكتفاء بالنص عليها قانونا .      

لاسيما وإن الاعتداءات على العامل وما يسمى بالجرائم العمالية باتت تقلق حاضر المجتمعات ومستقبلها عامة وفئـة العمال على وجه التخصيص ، وليس من الصحيح إن يترك أصحاب العمل بمنجـى من المسؤولية الجنائية عما يرتكبه من جرائم عمالية تنطبق من حيث الأوصاف والمضامين على الجرائم المنصوص عليها في القوانين العقابية .

إن أهم الوسائل اللازمة لحماية حقوق العامل هي إنشاء محكمة العمل للنظر في القضايا والمنازعات العمالية , وهو إنجاز للأسرة العمالية بحيث يملئ فراغاً بارزاً في النظام القانوني العمالي ، ولإيجاد توازن فعلي بين مصالح أصحاب العمل والعمال ، لا بد من تدعيم المنظومة الجنائية العمالية بنصوص رادعـة من شأنها أن تعالج جرائم العمل , وبشكل يدعم نظيره القانون الجنائي بتوسيع دائرة التجريم الخاصة بالأوساط العمالية لـما نراه من جرائم مقترفة بحق صحة العمال وسلامة المشروع والمنشأة من الأضرار .

إن احترام العامل من قبل صاحب العمل أمر ضروري للحفاظ على كرامة شخصه ، مما يقتضي أن تكون له حريته الشخصية الكاملة ، ونتيجة تمتع صاحب العمل بالسلطات الواسعة للمحافظة على سير العمل والمصالح في مؤسسته ، فقد يسفر عنه تجاوز للإطار المهني والمساس بشعور العمال وكرامتهم بإصدار تعليمات وأنظمة ولوائح مخالفة لنصوص التشريعات العمالية ، وهذا ما دفع المشرع الوطني ولا سيما في مجال العمل على محاربة الظواهر الجرمية التي تمس شخص العامل في صميم كرامته وشرفه ، ويأتي في مقدمة هذه الجرائم جريمة الإخلال بمبدأ التمييز والحق في المساواة بين العمال ، ويأتي بعده جريمة المساس بشرف العامل وكيانه الجسدي والنفسي خاصة ، وهي ما تعرف بجريمة التحرش الجنسي المادي والمعنوي ، وأخيرا جريمة العمل الجبري أو ما تعرف بجريمة استخدام العمال سخرة .

فيما يخص الاعتداء الاول وهو التمييز بين العمال : فبالرغم من التقدم الذي تحقق على الصعيد الدولي في توفير الحماية القانونية للأفراد ومن ضمنهم فئة العمال ضد جريمة التمييز ، إلا أنه التقارير تؤكد وجوده ، وجريمة التمييز متعددة الأوجه فهي موجودة في هياكل الدولة والمجتمع المدني بصورة عامة ، مما خلف أثاراً سلبية سيئة ولاسيما في مجال العمل  ، وإن قاعدة المساواة بين العمال الذين يعملون لدى صاحب عمل واحد ، قاعدة أساسية ولو لم يرد بها نص في القانون.

ان المقصود بجريمة التمييز بين العمال : يتضح مما عرفته الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري في 1965 المادة الأولى البند أولاً : ( هو أي تمييز أو استثناء أو تقييد أو تفضيل يقوم على أساس العرق أو اللون أو النسب أو الأصل القومي الاثني ويستهدف تعطيل الاعتراف بحقوق الإنسان والحريات الأساسية أو التمتع بها أو ممارستها ).

 ومن مقتضيات مبدأ عدم التمييز هو المساواة في العمل الظاهر والحقوق والحريات ، فلا يجوز التمييز على أساس الحالة الاجتماعية للعامل المرشح للعمل ، فقد حظرت التشريعات العمالية التمييز بين العمال وفقاً لوصفهم العائلي أو حالتهم الاجتماعية من زواج (لكونه متزوج من فلانة الفلانية او متزوجة من فلان المعروف او المشهور) وطلاق (خاصة للعاملة المطلقة) أو انفصال أو التمييز القائم على أساس الأصل (من اهل المحافظة او محافظات) أو الجنس أو بسبب أو معتقداته الدينية (سني او شيعي او مسيحي او صبي) أو حقوقه السياسية (ناخب او معارض لتيار او مساند لكتلة معينة).

 والمشرع العراقي في قانون العمل الجديد رقم 37 لسنة 2015 ، قد جرم الأخلال بمبدأ المساواة بين العمال وحظر التمييز من خلال التأكيد عليه في مرات عديدة في المواد (2-4-8-53)، فضلاً عن كونه قد حرص على المساواة بين الرجل والمرأة في الأجور في عمل متساوي من نفس القيمة والظروف .

اما الاعتداء الثاني الذي قد يقع على العامل فهو جريمة التحرش الجنسي: تعد جريمة التحرش الجنسي من أشد الجرائم خطراً على الاخلاق السامية للإنسان بصورة عامة وعلى المرأة والأطفال والأحداث بصورة خاصة ، فيمكن أن تقع جريمة التحرش على رجل أو امرأة أو طفل ، وهذه الجريمة لا تقتضي أتصالاً جنسياً كاملا بين الجاني والمجني عليه ، وإنما يمكن أن تكون مساومة أو ابتزاز أو إكراه او لفظ او لمس وغيرها من الضغوط التي تمارس على الضحية .

 ويمكن أن تحصل جريمة التحرش من أي شخص سواء كان الضحية ذكراً أم أنثى ولا يستثنى منها سناً معيناً ، تعرف جريمة التحرش بأنه : (رغبة الجاني في إشباع حاجاته الجنسية دون قيود أو احترام أو مراعاة للمبادئ العامة والقيم وهذا التحرش قد يكون لفظيا عن طريق الألفاظ التي تصدر من الجاني وقد يكون غير لفظي بـالحركات الجسدية كالتقبيل واللمس وغيرها )، كما انها ظاهرة اجتماعية ونفسية في الأصل لها إبعاد ونتائج مخيبة على المجتمع ، ، وبذلك هو نوع من أنواع المضايقة أو فعل غير مرحب به من النوع الجنسي يتضمن انتهاكاً للأخلاق والآداب العامة ، أو أي شكل من أشكال الايذاء الجنسي والنفسي.

وقد عرف قانون العمل العراقي النافذ جريمة التحرش الجنسي في المادة 10 الفقرة الثالثة بأنها: ( أي سلوك جسدي أو شفهي ذو طبيعة جنسية أو أي سلوك آخر يستند إلى الجنس ويمس كرامة النساء والرجال ويكون غير مرغوب وغير معقول ، ومهيناً لمن يتلقاه ويؤدي إلى رفض أي شخص أو عدم خضوعه لهذا السلوك صراحة أو ضمناً لاتخاذ قرار يؤثر على وظيفته ) ، وفي قانون العقوبات النافذ رقم 111 لسنة 1969 المعدل لم يشير المشرع العراقي إلى أي مصطلح لجريمـة التحـرش الجنسي صـراحة أو ضمنا وإنمـا تناول الجرائم المخلة بالأخلاق والآداب العامة في المواد ( 393-394-395-396 397 ) ، إذ عالج في المادة ( 296 ) جرائم هتك العرض بالقوة أو التهديد أو الحيلة والمادة ( 297 ) تطرقت إلى جريمة هتك العرض من دون تهديد أو قوة أو حيلة ، والمشرع العراقي لم يعرف هتك العرض وإنما ترك للفقه والقضاء تقدير ذلك.

فالمشرع شمل سلوك صاحب العمل المتمثل بالضغط الذي يمارسه على العامل لتحقيق أغراضه الجنسية ، وهذا أقل جسامة من درجة الإكراه ، وعده كافياً لتحقق جريمة التحرش الجنسي وإن قانون العمل حدد التحرش الجنسي في إطار استغلال صاحب العمل لنفوذه في مباشرته لوظيفته بوصفه صاحب السلطة والتوجيه ، فلم يشترط تحقق المنفعة الجنسية لصاحب العمل حتى تقع الجريمة وإنما يمكن أن تكون المنفعة الجنسية لغيره ، وأيضاً يمكن أن تدخل ضمن صور التحرش جريمة خدش الحياء وفق المادة ( 402 ) من القانون العقوبات ، وذلك عند تعرض الجاني للمجني عليها بتصرف يخدش حياؤها سواء كان ذلك قولاً أم فعلاً أم إشارة شريط أن يخدش حياء الانثى ، وتقدير ذلك مسألة موضوعية متروكة لقاضي الموضوع وفق السلطة التقديرية ، ولم يستعمل قانون العقوبات العراقي النافذ مصطلح التحرش الجنسي وإنما هناك مصطلحات متعددة أوردها منها هتك العرض والفعل الفاضح المخل بالحياء ، وهذه تدخل من ضمن صور التحرش المشار إليها في قانون العمل العراقي .

المشرع العراقي حسناً فعل عندما منح العامل حقاً في اللجوء إلى محاكم العمل المختصة لإقامة دعوى ضد صاحب العمل عند تعرضه لأي شكل من أشكال التحرش الجنسي ، إذ إن مواجهة ظاهرة التحرش تشريعياً لا تقتصر على وضع نص قانوني ، بل يجب أن يأخذ النص الاجرائي أهميته وإن عدم معاقبة المشرع في حالة رضى المجني عليه ، فإن ذلك يؤدي إلى تفشي ظاهرة التحرش الجنسي في الوسط العمالي ، ويفسح مجالاً للدعارة العمالية ، وإن العقوبة التي أقرها المشرع العراقي في قانون العمل النافذ غير ملائمة مع طبيعة الفعل ، عندما جعلها جنحة وعاقب عليها بعقوبة الحبس البسيط ، وكان عليه أن يرفع العقوبة إلى السجن مدة لا تزيد على سبع سنوات لأن شدة العقوبة هي التي تحقق الردع وتحد من ظاهرة التحرش ، وإن قانون العمل لم يشدد العقوبة إذا كان المجنى عليه طفلا أو من ذوي الإعاقة .

اما الاعتداء الثالث فهو متمثل بالعمل الجبري او السخرة : وهي جميع الأعمال أو الخدمات التي تفرض عنوة على أي شخص تحت التهديد بأي عقاب، والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الحالية ضيقت من سلطان إرادة العامل ، وقيدت حريته في اختيار نوع العمل ، وأصبحت قاعدة حظر الرق والعمل الجبري والقسري والممارسات المشابهة لها قاعدة أمرة في القانون الدولي يجب الالتزام بها ، وهذه القواعد الآمرة أدت إلى تولد التزامات جنائية على الشركات والمؤسسات الخاصة، وفي العراق حرص المشرع الدستوري على حرية العمل وحظر العمل القسري والعبودية، وعرف قانون العمل العراقي النافذ رقم 37 لسنة 2015 العمل الجبري في المادة الاولى الفقرة 12 منه على انه : (كل عمل أو خدمة تفرض قسراً على أي شخص تحت التهديد بأي عقوبة ولم يتطوع هذا الشخص لإدائه بمحض إرادته) ، وقرر حرية العمل ووجوب القضاء على جميع أشكال العمل الجبري الالزامي ، وتناول قانون العقوبات العراقي النافذ جريمة السخرة التي تقع من موظف أو مكلف بخدمة عامة ، أما إذا كان الجاني غير موظف فلم ينص القانون على معاقبته.