المرجعية الدينية والتغيير

                                                                         د. خالد عليوي العرداوي

      قبل الشروع بالحديث عن مساهمة المرجعيات الدينية في عملية التغيير الاجتماعي ، لا بد من تسليط الضوء على  بعض المؤشرات الايجابية والسلبية المعاصرة التي يجب إدراكها من قبل المتصدين للعمل المرجعي ، وكما يلي :

أولا : المؤشرات الايجابية: وتتمثل هذه المؤشرات  بــ :

         تنامي مشاعر التدين عالميا ، وفي كل الحضارات الإنسانية .

         تصاعد حالة التمدن على كوكب الأرض ( امتداد المدن واتساع نطاقها ).

         التطور التكنولوجي ، وانعكاساته على الإعلام والعلاقات بين الشعوب .

         ضعف سيطرة الطغاة والمستبدين على شعوبهم ، وزيادة وعي الشعوب بالحاجة إلى نظام حكم عادل يضمن الحقوق والحريات .

المحصلة: ( زيادة قدرة الدعاة والمصلحين على كسر قيود الخوف والإرهاب الحكومي ، ونشر مناهجهم الإصلاحية بين الناس بتأثير غير مسبوق  ).

ثانيا : المؤشرات السلبية : وهذه المؤشرات هي :

         ارتفاع مستوى التطرف بكل أبعاده ، وتطور أدوات القتل والدمار المستعملة ضد الخصوم .

         استغلال الدين كعامل محوري وأساسي في تأجيج الصراعات الاجتماعية ( الوطنية والدولية ).

         زيادة الفجوة الاجتماعية عالميا بين القلة الغنية المسيطرة على كل شئ ، والأغلبية التي تكون محط سيطرة وتحكم هذه القلة .

         خضوع الإنسان لمستوى مرتفع من القضايا والأزمات المعقدة التي لم يألفها سابقا ، وعدم امتلاكه لمرجعية فكرية وتنظيمية واضحة تساعده على تجاوزها .

 المحصلة: ( بيئة إنسانية كثيرة المشاكل ، متنامية الصراعات ، مجهولة الاتجاهات ).

   في ظل هذه المؤشرات ، تبرز الحاجة ماسة إلى ضبط التغيير الاجتماعي ، وتوجيه بوصلته باتجاهات إصلاحية ، تساعد الإنسان على حل مشاكله الشائكة ، بدلا من أن يكون تغييرا هداما يجرد البشر من سموهم ، ويسقطهم في شراك تمتهن كرامتهم وإنسانيتهم. ولما كانت المرجعيات الدينية تمثل المؤسسات الرائدة في حماية الدين ، فأن المهمة الملقاة على عاتقها في مجال التغيير الاجتماعي تكاد تفوق كل المهمات التي واجهتها عبر تاريخها الطويل الممتد بامتداد هذا الدين الحنيف ، لكن على المرجعيات الانتباه لما يلي :

التغيير فكرة وحركة

غالبا ما تنادي المرجعيات الدينية بضرورة التغيير ، وتروج له  بين أتباعها عن طريق المنابر ، والمنشورات ، والمجالس الحسينية وغيرها . لكن تبقى هذه النداءات مجرد أفكار حول التغيير دون أن تتحول إلى حركة تغيير تستفز وجدان الشعوب ، وتحركها لبناء ذاتها على أسس جديدة ، ومن يصنع التاريخ على امتداد عمر البشرية هو حركة التغيير المقترنة بالإيمان بفكرة التغيير ، أما الأفكار فقد تبقى مئات السنين تجول في عقول أصحابها ولا تجد لها أرضا للاستقرار عليها . والغريب العجيب أن أنظمة الحكم في عالمنا الإسلامي تشجع على بقاء دور المرجعيات مقتصر على بث أفكار التغيير ، لأن تدرك أن اقتران فكرة التغيير بحركة التغيير ، يعني اقتلاعها من جذورها .

اعتماد نظرية التغيير النخبوي

ترى مرجعياتنا الدينية المباركة ، أن التغيير المنشود يجب أن يبدأ بالقاعدة ( عموم الشعب ) قبل القمة ( النخبة ) ، فتجد مشايخنا ودعاتنا يؤكدون في خطبهم ومواعظهم على هذا الأمر ، ويقرنون ذلك بقوله تعالى :{.. بان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ..} ، وانه : ” كيفما تكونوا يولى عليكم ” ( حديث نبوي ) .. الخ . لكن هذا التوجه صحيح في إطاره الوعظي الإرشادي ، أما في مجال التغيير الاجتماعي الشامل ففيه سوء تقدير للأولويات ، فالعامة غالبا ما تكون منشغلة بمتطلبات حياتها اليومية من الحاجات الأساسية ، لاسيما في عصر أصبح تأمين هذه الحاجات يستهلك كل وقتها ومقدراتها ، نعم إن كل واحد من عامة الشعب يدرك الحاجة إلى التغيير ، لكنه عاجز عنه بدون نخبة فاعلة تقوده وتحركه. إذا فالتوجه المرجعي نحو العامة كمدخل للتغيير الشامل فيه إشكال تطبيقي ، والبديل الحقيقي عنه هو التركيز على تغيير النخبة ، وجعل هذا التوجه محور النشاط المرجعي في المستقبل ، مع بقاء الخطاب الوعظي والإرشادي للعامة . والدليل على صحة نظرية التغيير النخبوي يمكن أخذه من القرآن الكريم من خلال قصتي موسى (ع) وفرعون ، ويوسف (ع) وملك مصر ، فعندما عجز نبي الله في القصة الأولى عن تغيير النخبة أو بعضها لم يكن الحل أمامه إلا بالخروج من مصر والبحث عن بلاد غيرها توفر له ملاذ آمن من عنف السلطة وطغيانها ، أما نجاح نبي الله في القصة الثانية في التأثير في النخبة وكسبها إلى جانبه ، فقد جعله متحكما بخزائن الأرض ، ونجح في تحقيق تغيير مؤثر في الدولة التي يعيش فيها.

منهجية التغيير

يحتاج التغيير إلى اعتماد منهجية شرعية معتدلة تركز على القواسم المشتركة بين المسلمين ، فتستحضر الجوانب المشرقة من سيرة المعصومين وتاريخ المسلمين ، تقطع السبيل على المتخبطين من أنصاف المتعلمين ، الذين يريدون استغلال الدين وتحويله من عامل بث للألفة والمحبة والتعاون والتعايش بين الناس إلى عامل هدم ، وتأجيج للعنف والصراع ، واستباحة المحرمات المقدسة وأولها الإنسان الذي قال عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله) : بأنه ” بنيان الله ملعون من هدمه” . إن هذه المنهجية التي ندعو إليها ، تحتاج إلى تجنب الخطاب الديني المتطرف من كل الإطراف ، وعدم الرد على دعاته بأساليبهم المدمرة.

هدف التغيير

يجب أن يكون الهدف النهائي للتغيير الاجتماعي ، هو بناء نظام حكم مدني إسلامي يستوعب جميع المكونات الاجتماعية على اختلاف رؤاها الاعتقادية والفكرية ، ويقدم الدليل على مدنية الإسلام ، واستجابة أحكامه وقواعده للتطور الإنساني المتمدن . كما يجب تحريم واتهام كل الدعوات التي تجعل هدفها بناء دولة طائفية أو دينية ، فتمارس من خلال حركتها السياسية الإقصاء والتهميش للطوائف والأديان الأخرى ، لأن هكذا دولة لم توجد في التاريخ الإنساني المعروف ، ولن توجد في المستقبل القريب أو البعيد .