بقلم: الاستاذ الدكتور خالد عليوي العرداوي
استاذ العلوم السياسية في كلية القانون- جامعة كربلاء
آب-أغسطس 2022
تجد كثير من العراقيين عندما يتحاورون في الشأن السياسي الذي يمر به بلدهم يتساءلون بحيرة: ماذا يحدث؟ ولماذا يحدث؟ والى اين نحن ذاهبون؟ وهذه الاسئلة واشباهها التي يتلفظ بها الناس من جميع الفئات الاجتماعية، من الانسان البسيط الذي يكد على لقمة عيشه، مرورا بالنخب على اختلاف مسمياتها، وصولا الى القادة السياسيين في قمة هرم السلطة، تحتاج من المتخصصين بالعلوم السياسية الى تفسير مقنع ومنطقي.
والتفسير المنطقي الذي يمكن تقديمه هو أن المجال السياسي يتميز بخصوصيته، فمنذ ان اصبحت السياسة علما تجريبيا مستقلا بذاته في القرن الماضي، لم يعد مجالها بما ينطوي عليه من طبيعة وشكل نظام الحكم وعلاقاته وسياساته وقواعده ومنظومة قيمه … يعمل بالطريقة التي تعمل بها مجالات اجتماعية أخرى، كمجال العشيرة والقبيلة وغيرها من المجموعات الاجتماعية، نعم تشكل المجالات الاخيرة -غالبا-عناصر مهمة في تحليل الظاهرة السياسية وتفسيرها، ولكنها تبقى مجالات تحكمها الامور المتعارف عليها في تنظيم تشكيلاتها وعلاقاتها وأطرها الفكرية، أما المجال السياسي فأن يتطلب وجود ما هو أكثر من التحليل والتفسير وتنظيم العلاقات المتعارف عليها، انه يتطلب رسم خارطة طريق تحلل الواقع وتفسره، وتبين ما هو مطلوب لتنظيمه وتطويره، وكيفية التنسيق بين مصادر القوة فيه، وطبيعة وشكل الحكم السائد في الدولة، والاهداف التي يروم تحقيقها في المستقبل، فهو يحدد للمجتمع السياسي أين يريد أن يصل، والاليات المعتمدة للوصول، والتحديات التي تعترض ذلك، وسبل تذليلها، وما هي منظومة القيم والحقوق والمصالح التي يجب مراعاتها او توليدها ليكون المسار نحو المستقبل صحيحا، ومن هم الاصدقاء والاعداء المحتملين…
أي أن المهتم بالمجال السياسي لا يكتفي بتحليل الواقع كما هو، بل يبين علله الظاهرة والكامنة، وكيفية الاستفادة من موارده المتاحة، وعلاقات القوة السائدة فيه للانتقال به الى ما هو أفضل في المستقبل، وهو بذلك يمنح الفرد والمجتمع رؤية تحدد لهما اين يقفان؟، وماذا يواجهان؟، والى اين يذهبان؟ وكيف يحققان ذلك؟ وهذه الرؤية هي ما نسميه بالنظرية السياسية.
ومفهوم النظرية ينصرف الى كونها ” أداة لفهم الواقع المستهدف وتفسيره”([1])، أو هي ” افتراض تفسيري، فكرة أو مجموعة من الافكار تسعى بطريقة ما الى فرض نظام أو معنى على ظاهرة”([2])، وهي ” مجموعة من التعميمات أو الاحكام المجردة عن حقيقة ما يجب أن تثبت ببرهان، فهي تركيب عقلي مؤلف من تصورات تهدف الى ربط النتائج بالمبادئ…(وهي) مجموعة من المفاهيم والفرضيات والقوانين المرتبطة عضويا ومنطقيا ببعضها، والتي تستطيع من خلال هذا الترابط العضوي والمنطقي أن تقدم تفسيرا مقنعا ومحددا للظاهرة التي تتناول بالتحليل، كما بمقدور النظرية أن يجعل من الممكن التنبؤ بما يحتمل أن يؤول اليه تطور هذه الظواهر”([3]).
اما النظرية السياسية، فهي ” مجموعة فروض متسقة فيما بينها اتساقا منطقيا تبدو لصاحبها أنها تمثل حقيقة واقع سياسي معين”([4])، وهي ” التنسيق الموضوعي للملاحظات الواردة بصدد الظاهرة السياسية وتفسيرها والكشف عن دلالاتها، بالإضافة الى عموميتها، وهي الرابطة التي يقيمها العقل بين هذه الوقائع السياسية … (كما أنها) مجموعة تحليلات وفروض وتصورات للنتائج، تفسر في ضوئها الظواهر السياسية حول هوية الدولة: نشأتها، وتطورها، ووظائفها، ونظمها، وأهدافها…” ([5]).
اذن وجود النظرية السياسية هو الذي يسمح للفرد والمجتمع بفهم ما يجري في الفضاء السياسي، كما يقدم الاجابة عن ماذا يحصل، ولماذا يحصل، والى اين يسير المجتمع السياسي؟، بل انها تشكل البوصلة التي تحرك اللاعبين السياسيين، وتحدد لهم مسار حركتهم في داخل دولهم وخارجها، فهي المنظومة الفكرية لكل لاعب سياسي، وهي أشبه ما تكون بالعقل بالنسبة للجسد، وكل لاعب سياسي يفتقر اليها يصبح حاله كحال الجسد بلا عقل، فتكون حركته غير منضبطة بمسار معين، ولا يمكن الحكم عليها بالنجاح او الفشل، مما يخلق الارتباك والفوضى لهذا اللاعب وللمجتمع الذي يلعب دوره فيه.
وبعد فهم أهمية وجود النظرية السياسية في مجال العمل السياسي، لننتقل الى ما حدث في المجال السياسي العراقي بعد سنة 2003، ستجد –مع الأسف-أن كل القوى السياسية العراقية التي تسيدت المشهد في هذه المرحلة دخلت العمل السياسي بلا نظرية سياسية واضحة، نظرية سياسية تشرح فلسفتها وتحدد رؤيتها فيما يتعلق بـ:
– تفسير وتحليل الواقع السياسي العراقي، والاهداف المطلوب الوصول اليها، ومراحل بلوغ الاهداف.
– طبيعة القوى الاجتماعية والسياسية السائدة ونمط التأثير المتبادل فيما بينها.
-مصادر القوة والضعف في بنية الدولة وسبل التعامل معها.
– الموقف من الديمقراطية كفكرة ونظام واسلوب حياة.
-حدود العلاقة بين الدين والدولة.
-منظومة القيم والمصالح التي يجري العمل على مراعاتها أو تحقيقها.
-منظومة الحقوق والحريات الفردية والاجتماعية، وسبل حمايتها ومنع التعدي عليها او انتهاكها.
– طبيعة النظام الاقتصادي الذي ينظم عمل المجتمع والدولة.
– شكل نظام الحكم، والعلاقة بين سلطاته الرئيسة، وموضع الحاكم في الدولة وعلاقته بالمحكوم.
– السياسة الخارجية للدولة وخارطة اعدائها وحلفائها.
ان افتقار القوى السياسية الى النظرية السياسية جعلها تستند في مشروعية عملها الى وثيقة دستورية (دستور 2005) تم وضع بنودها بشكل مستعجل، وفي ظروف غير مستقرة تحكمها علاقات الخوف والقوة والغلبة بين الفرقاء السياسيين، وبلا فلسفة واضحة لبناء الدولة تحكمها حاجات المواطن والوطن، تؤمن بها هذه القوى وتحرص على تطبيقها في المدى القريب والمتوسط والبعيد.
ونظرا لغياب النظرية السياسية وعدم استناد الدستور اليها في صياغة بنوده اصبح الاخير مجرد غطاء لواقع سياسي لا يحكمه بناء فكري متماسك، ولذا تجد ان القوى السياسية، وعلى الرغم من اقترابها من عشرين سنة من العمل السياسي لا زالت تتصارع حول السلطة بمنطق الزعامات والقيادات والطوائف والعشائر، اذ خلا صراعها من أي اطروحات فكرية متماسكة، وبرامج عملية واضحة تستند اليها، ويمكن الحكم من خلالها بالنجاح او الفشل، ولم يعد الايمان بأطروحة فكرية معينة هو المقياس لتولية الاشخاص في مواقع المسؤولية، بل بات الولاء والتبعية لمراكز القوة( الزعيم، الطائفة، القومية، العشيرة، مافيا الفساد، الداعم الخارجي) هو المقياس والاساس في ذلك ، وكلما زاد الولاء والتبعية وحقق المرء مكاسبا أكثر لمركز القوة الذي اوصله الى المنصب زادت فرص بقائه فيه او قفزه الى ما هو أعلى.
ان غياب النظرية السياسية جعل الخارطة العراقية فارغة مما نسميها في السياسة قوى اليمين وقوي اليسار، فضلا عن التدرجات الفكرية فيما بينها؛ لأن وجود هذه القوى مرتبط بوجود الأيدولوجيات الواضحة لكل منها، تلك الأيديولوجيات التي تحدد موقعها في العمل السياسي، ولذا تجد الفوضى عارمة في بناء تحالفات القوى السياسية فيما بينها، فهي تتقارب وتتباعد لأسباب آنية لا علاقة لها بالتقارب والتباعد الفكري؛ كونها مجرد تحالفات من اجل مصالح ضيقة تحتمها ضرورات الوصول الى السلطة أو البقاء فيها.
ومع غياب النظرية السياسية اصبحت الساحة السياسية مليئة بالصقور والحمائم، ولكنهم ليسوا صقور وحمائم يمثلون رجال ونساء محترفين في بناء الدولة، وانما صقور وحمائم يحدد وجودهم علو الصوت والتطرف المزعج في عض النواجذ على السلطة وامتيازاتها والتسابق على تقديم عرابين الولاء والطاعة لمراكز القوة.
كما قاد غياب النظرية السياسية الى جعل الافكار الجيدة الواردة في النص الدستوري غير قابلة للدعم والتطوير، لعدم فهمها والايمان بقوتها والالتزام الاخلاقي بها من قبل القوى السياسية، لذا بقيت المؤسسات الدستورية غير مكتملة، وسيئة الأداء، وغالبا ما تم اتخاذها غطاء للاستحواذ على السلطة، فيتم تبجيلها عندما تساعد على تحقيق هذا الهدف، ولكنها تضرب عرض الحائط ويجري تعطيلها وسحقها عندما تكون عقبة في طريقه.
ان وجود نظرية سياسية في العمل السياسي ليس ترفا فكريا، بل هو دليل واضح على كون العاملين في هذا الميدان رجال دولة ام هم مجرد هواة وطالبي سلطة، وعدم اهتمام القوى السياسية العراقية التي جاءت للحكم بعد سقوط البعث بهذا الموضوع يدل على انها لم تكن مؤهلة لتحمل اعباء العمل السياسي وتوفير استحقاقات بناء الدولة، وستبقى تدور في دوائر مفرغة من الصراع المتبادل والتدمير الذاتي والشخصنة الحزبية لوقت طويل قبل ان تنضج أو تزول، ولكنها في عملها هذا ارتكبت خطيئة لا تغتفر بحق ذاتها ومجتمعها ومصالح بلدها العليا.
[1] – عادل فتحي ثابت عبد الحافظ، النظرية السياسية المعاصرة، الإسكندرية-مصر، الدار الجامعية، 2007، ص35.
[2] – آندرو هيوود، النظرية السياسية مقدمة، ترجمة لبنى الريدي، القاهرة، المركز القومي للترجمة، 2016، ص27.
[3] – أسعد عبد الوهاب عبد الكريم، الفكر السياسي والنظرية السياسية دراسة مقارنة، بحث منشور في الشبكة الدولية للمعلومات (الانترنيت) على الرابط الالكتروني: https://www.researchgate.net/publication/315382771_alfkr_alsyasy_walnzryt_alsyasyt
تاريخ الزيارة 17/8/2022.
[4] – عادل فتحي ثابت عبد الحافظ، مصدر سابق، ص33.
[5] – أسعد عبد الوهاب عبد الكريم، مصدر سابق.