أصدقاء إيران يدفعون الثمن
هناك مقولة في السياسة مفادها : صديق عدوي عدو لي ، وهي مقولة صحيحة إلى حد بعيد ، لأنه عند تحليل ما يجري في منطقة الشرق الأوسط من أحداث وتقلبات درامية ، يتضح وبما لا يدع مجالا للشك ، أن هذه الأحداث ليست بعيدة عن ظاهرة الاستقطاب الإقليمي – الدولي الشديد الذي تشهده هذه المنطقة بين إيران والدائرين في فلكها من جهة ، والولايات المتحدة وإسرائيل والدائرين في فلكهما من جهة أخرى ، وتترك هذه الظاهرة تأثيراتها المباشرة على شكل صراعات سياسية عاصفة تتركز ساحاتها الرئيسة في دول عدة منها : العراق ، سوريا ، مصر ، لبنان ، اليمن نوعا ما ، البحرين ، وقد التحقت بهذا الركب تركيا بشكل ما مؤخرا.
فما يحدث في العراق على مدار السنوات العشر المنصرمة ، يحكم بالإفلاس على الرواية الرسمية للحكومات العراقية المتعاقبة ، التي ترجع أسبابه إلى تنظيم القاعدة وبقايا البعثيين والجماعات والمليشيات المتطرفة .. لأن الهجمات والتفجيرات في هذا البلد لا يوجد لها نظير في باكستان وأفغانستان ، وهما البلدين الذين يشكلان مقر القاعدة ومهدها الأول في العالم ، على الرغم من وجود القوات الأمريكية والدولية المحتلة المستفزة للشعور الديني والوطني هناك ، فكيف يعقل أن يمتلك أيمن الظواهري زعيم القاعدة الحالي ، وسلفه أسامة بن لادن القدرة ، والإمكانية لتحريك الأحداث وإثارة المشاكل السياسية إلى حد السعي لكسر الإرادة السيادية لحكومات وشعوب دول مثل العراق وسوريا واليمن وغيرها ، ولا يمتلكان مثل هذه القدرة في أماكن تواجدهما وقيادتهما المباشرة ؟ ، قد يقول قائل أن التفجيرات والعمليات المسلحة تحصل – أيضا – في باكستان وأفغانستان ، لكن الرد على هذا القول أنها لا تقارن بتلك التي تحصل في الدول الأخرى المذكورة أعلاه ، كما أن العمليات التي تحصل في باكستان اغلبها موجه نحو أبناء المذهب الشيعي ، وليس نحو النظام السياسي القائم ، إذا فان تحميل تنظيم القاعدة والبعثيين والتكفيريين والمليشيات .. فقط مسؤولية التدهور المستمر للأوضاع في العراق ، يعد قراءة سياسية قاصرة وغير دقيقة ، وتضخيم مقصــود لدور هذه القوى للتغطية علـــى المــحرك الحقيقي للأحداث والمسؤول الأول عن استمرارها؟.
وإذا نظرنا إلى الصراع الدائر في سوريا اليوم ، سنجد انه قد خرج عن موضوع كونه صراعا بين نظام حكم مستبد ، وعديم الرحمة ، وبين شعب حر يكافح من اجل نيل حريته وبناء نظامه الديمقراطي ، سواء على مستوى طبيعة الصراع و حجم الدمار الذي يخلفه أو على مستوى الأجندات الفكرية المطروحة ، والتدخلات الدولية التي تفرض نفسها ، فلماذا أخذ الصراع هذا المدى ؟ ولماذا أصبح الدكتاتور الحاكم بالنسبة للبعض رمزا دينيا ، وسياسيا ، ونضاليا ، يستدعي الواجب الشرعي مناصرته ، في الوقت الذي يتم شيطنة كل معارضيه والرافضين لوجوده ، فيما تكون المعارضة له عند البعض الآخر جهادا شرعيا ، وعملا بطوليا ، وصرخة تحررية ، حتى لو لبس بعض أطرافها ثوب البربرية والانحطاط والظلامية ، في الوقت الذي يتم شيطنة النظام ولعنه والتبرؤ من وجوده ؟
وعند تحليل أحداث مصر منذ ثورة 25 يناير 2011 التي جاءت بالإخوان المسلمين إلى سدة الحكم بانتخابات ديمقراطية ، الظاهر منها أنها كانت نوعا ما أكثر ديمقراطية من كل الانتخابات التي سبقتها في العهود السالفة ، مرورا بمظاهرات الثلاثين من يونيو 2013 وما تبعها من أحداث انتهت بتدخل العسكر وإسقاط حكم الإخوان ، وجاءت بمرحلة انتقالية مؤقتة لا تقبل الإخوان كطرف فاعل فيها برئاسة المستشار الحقوقي عدلي منصور ، ، فيما سارعت السعودية والإمارات والكويت إلى مساعدة نظام ما بعد مرسي اقتصاديا ، بمباركة دول خليجية وإسلامية وعربية أخرى ، مع اكتفاء الولايات المتحدة والغرب بالاعتراض والشجب الخجول لما تعرض له حكم الأخوان. أن الأمر يشير إلى أن المشكلة لا تكمن فقط بأخطاء الإخوان السياسية في سنة حكمهم اليتيمة ، بل له أسباب أخرى لا تظهر للعلن ؟.
وفي تركيا ، تجد أن ما بدا للكثيرين انه نظام ناجح ، ومستقر على المستوى السياسي والاقتصادي والثقافي ، بزعامة حزب العدالة والتنمية ، يتعرض بشكل مفاجئ إلى مشاكل شعبية عاصفة حول قضية غير متوقعة تتعلق بإعادة التخطيط العمراني لميدان تقسيم ، فيصل الأمر بالاتحاد الأوربي ، ردا على هذه الأحداث إلى إعادة النظر بطلب تركيا الانضمام إلى عضويته العتيدة ، مع تضخيم إعلامي مقصود لتشويه صورة النظام الحاكم – الشعبية والدولية – وتقييد مساحة مناوراته السياسية الإقليمية والدولية . إن دراماتيكية الحدث تشير – أيضا – إلى أن للموضوع امتدادات اكبر من ميدان تقسيم ، بل واكبر من تركيا ذاتها ؟ .
وفي لبنان يشتد التضييق على حزب الله ، لتقييد حرية تحرك كوادره ، وتشويه صورة حلفائه ، واستنزاف قدراته من خلال الصراع السوري ، وإرسال رسائل قوية وواضحة إليه بأنه إذا لم يعدل خطابه السياسي ومواقفه الإيديولوجية ، فانه سيحترق هو ولبنان كله معه ، ومن هذه الرسائل حادثة تفجير الضاحية الجنوبية حيث المقر الحصين للحزب في منتصف شهر آب 2013 ، فلماذا هذا التحدي والتهديد الخطير لوحدة لبنان أرضا وشعبا بهدف إخضاع حزب الله وكسر إرادته؟.
وفي فلسطين ، هناك محاولة أمريكية لإطلاق جولة جديدة من المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية في مرحلة حرجة تواجهها المنطقة ، كما تواجهها مقاومة هذا الشعب للكيان الغاصب لأرضه ، مع إقصاء واضح للطرف المتشدد في المطالبة بحقوقه الذي تمثله حركات المقاومة الإسلامية ، فلماذا هذا التوقيت بالذات للحديث عن جولة المفاوضات الجديدة ؟.. وعلى هذا المنوال يمكن التساؤل عن تقلبات الأحداث السياسية الجارية في البحرين واليمن ؟ .
لا نريد الإطالة في سرد كل ما يجري في المنطقة من أحداث قد تبدو للبعض معزولة عن بعضها ، لكنها في الحقيقة مترابطة ، وتتحكم بمجرياتها ، ظاهرة الاستقطاب الإقليمي والدولي التي اشرنا إليها في مطلع هذا المقال ، ففي ظل هذا الاستقطاب يجب أن يدفع أصدقاء إيران الواقعيين أو المحتملين الثمن غاليا من خلال تفكيك نسيجهم الاجتماعي ، وعدم استقرارهم الأمني ، وإضعاف دورهم الإقليمي والدولي ، وتدمير بنيتهم الاقتصادية ، وإسقاط أنظمتهم الحاكمة أو خلق المشاكل لها ، وتشويه سمعتهم إعلاميا ، وإثارة مشاعر الشك والريبة حول وجودهم السياسي .. لذا تجد أن العراق يفتقد الاستقرار السياسي والأمني لا لأن تنظيم القاعدة والتنظيمات المتطرفة الأخرى قوية فيه ، بل لان حكومته لم تنجح في فك عرى تحالفها مع إيران ، كما لم تنجح في أقناع الآخرين بحياديتها ، واستقلال مشروعها السياسي ، بل بقيت حكومة تتصرف كما لو أن العراق يمثل الفناء الخلفي للسياسة الإيرانية والمجال الحيوي لمصالحها الإقليمية ، ومثل هكذا حكومة سواء كانت حكومة نوري المالكي أو غيره ، وسواء حكم فيها الشيعة أو السنة ، العرب أو الأكراد عليها أن تدفع الثمن ، لأنها ستكون حكومة غير مرغوب فيها من المحور المعادي لإيران في المنطقة.
وفي مصر، سقطت حكومة الإخوان ، التي على الرغم من أخطائها الداخلية الواضحة التي استفزت البنية الثقافية للمجتمع المصري ، ومحاولاتها للانفراد بالحكم ، فانه كان يمكن لها أن تستمر وتعالج أخطائها ، وتقبل في المنظومة السياسية الإقليمية السائدة ، لكن الخطأ الاستراتيجي لهذه الحكومة كان تذبذبها في تحديد شبكة علاقاتها الإقليمية والدولية ، ومحاولة رئيسها المعزول محمد مرسي كسر حاجز القطيعة مع إيران ، والخروج عن الاصطفاف الإقليمي المعهود لمصر ، فكان يجب معاقبة هذه الحكومة ومنعها من تحقيق أهدافها ، لأنها – أيضا – أصبحت حكومة غير مرغوب فيها ، وهناك سبب آخر سنتحدث عنه بعد قليل.
وفي سوريا ولبنان ، لا يحتاج المرء إلى كبير عناء لتلمس هذه الحقيقة ، فحكم البعث في سوريا حليف تقليدي لإيران ، كما أن حزب الله هو كذلك ، فالقضاء على هذين الحليفين ، لتصفية النفوذ الإيراني في هاتين الدولتين ، هو من ضرورات لعبة التوازنات والاستقواءات بين المحاور الإقليمية ، لذا يبدو الدكتاتور السوري لحلفائه مناضل شهم حتى لو احرق البشر والحجر، وقام بكل ما لا يقبله ضمير إنساني حي ، بينما يصور أعدائه على أنهم شياطين خبيثة حتى لو كانوا أحرارا مخلصين ، هدفهم الأمن والسلام والكرامة الإنسانية ، والعكس صحيح بالنسبة لأعداء هذا النظام ، فليست القضية قضية ديمقراطية أو حرية أو كرامة شعب أو منهجية مذهب .. تحرك الأحداث والمواقف في هذين البلدين ، وسيستمران بدفع الثمن غاليا لتحالفهما مع إيران حتى تنفك عرى هذا التحالف ، وما يطيل أمد الصراع في سوريا اليوم هو أن أعداء إيران لا يريدون استبدال عدو بعدو حتى لو كان البديل ديمقراطي وأنساني حد النخاع ، بل يريدون نظاما جديدا حليفا لهم ، ولا يهدد مصالحهم ، ومتى ما وجد هذا الحليف سينتهي الصراع بهزيمة احد الطرفين ، كما ستواجه لبنان أياما عصيبة تنعكس على بنيته السياسية والاجتماعية والاقتصادية نتيجة مواقف حزب الله الداعمة لإيران..
أما تركيا ، فتدفع الثمن بشكل آخر ، فهي الداعم والملهم للجماعات الاخوانية في المنطقة ، وهذه الجماعات عندما وصلت إلى السلطة في اكبر دولة عربية حاولت أن تكسر قواعد اللعبة المسموح بها ، وتغير مواقع اصطفافها ، كما أن مواقف رئيس الحكومة التركية أظهرت توجها بارزا في دعم حكومة حماس في غزة على حساب إسرائيل ، كما اتخذت موقفا عدائيا لإسرائيل عندما قطمت العلاقة معها بعد حادثة العبارة مرمره ، وأصبح إلهامها ونجاحها الاخواني مثار ريبة وشك أمريكا وإسرائيل والغرب وحلفائهما في المنطقة ، حيث توجست هذه الأطراف من الطموح الإقليمي التركي الجديد ، الذي يتجاوز الخطوط الحمر المرسومة لتركيا ، لذا توجب توجيه الضربة إليها مرتين : الأولى بخلق المشاكل الداخلية لحكومتها ، ليكون تركيزها على وجودها في الداخل أكثر من تركيزها على التأثير في المنطقة والإقليم ، والثانية من خلال إسقاط حليفها الاستراتيجي المستقبلي المحتمل الذي مثله حكم الإخوان في مصر ، بل إن تغيير أمير قطر حمد بن خليفة وأقطاب حكمه الرئيسة الداعمة للجماعات الاخوانية لا يمكن قراءته بعيدا عن هذا التحليل ، إذ لو نجحت تجربة الإخوان في مصر ، وحققت النجاح في تركيا ومصر بدعم قطر والجماعات الاخوانية في المنطقة لكان ذلك كفيلا بخلق محور استقطاب جديد في المنطقة ، اقل ما يقال عنه ، انه لن يكون ودودا تماما مع المحور الإسرائيلي – الأمريكي – الغربي وحلفائه في المنطقة.
أن ترابط الأحداث في المنطقة، وعلاقتها المباشرة بمواقف مراكز الاستقطاب الرئيسة فيها ، وتطورها بالشكل الذي آلت إليه من فوضى عارمة ، تبدو للبعض أنها غير موجهة ، يهيئ البيئة المناسبة للحديث عن جولة مفاوضات جديد بين الفلسطينيين والإسرائيليين ستصب في مصلحة إسرائيل لا محالة ، فما يجري هو محاولة كسر إرادة ، وإخضاع للدول والمحاور الرافضة أو المحتملة الرفض والتهديد للمصالح الأمريكية – الإسرائيلية – الغربية وما يرتبط بها من أحلاف ، وإعادة إنتاج للقوى والمواقف والأنظمة السياسية ، بشكل يبسط الأرضية لخدمة هذه المصالح على المستوى الاستراتيجي القريب والمتوسط والبعيد، لذا إذا شأنا تغيير عنوان هذا المقال بشكل آخر فأنه سيكون : أعداء أمريكا وإسرائيل وحلفائهما يدفعون الثمن.
الدكتور
خالد عليوي العرداوي
أيميل : khalidchyad@yahoo.com