بناء الشرعية في فكر الإمام الحسين عليه السلام

د. سامر مؤيد عبد اللطيف

الحمد لله حق حمده والصلاة والسلام على من لا نبي من بعده وعلى اله والمنتجبين من صحبه  وبعد …

      لقد كان فكر الحسين عليه السلام مدرسة متكاملة للبشرية تتعلم منها الأجيال ما ينفعها لدينها ومدنيتها ؛ وكانت رسالته عليه السلام ، بحق ، إمتداداً لرسالات الأنبياء ، وهي رسالة الحق المتوثب على الباطل في كل العصور؛ فكما أن الأنبياء جاءوا ليخرجوا العباد من طاعة المخلوق إلى طاعة الخالق ويؤسسوا فضاءا من الشرعية القدسية تسبح في كنفه الأرواح المؤمنة حكاما ومحكومين  ، كذلك فعل الإمام الحسين حينما حرر الناس من عبادة الطاغوت اليزيدي في زمانه ، فجسدت هذه الرسالة في أهم فصولها ومفاصلها السعي لإعادة ترسيم وتثبيت مقومات الشرعية في نظام الحكم بعد اجتثاث الأسس الفاسدة التي حاول المفسدون من الحكام ترسيخها مصدرا لشرعية حكمهم . وفي ملكوت تلك الشرعية الإلهية التي رامتها رسالة الحسين المقدسة ، توافرت سبل العلاج لكثير من أزمات الشرعية التي عاشتها وتعيشها معظم أنظمة الحكم في العالم الاسلامي بسبب بعدها عن النهج الالهي ،  اذ نجد في فكره الإجابة عن الكثير من الأسئلة التي تتعلق بمساحة الشرعية الممكنة للنظام السياسي القويم  بنسق يتخطى حدود المقولات  التقليدية وتخرصاتها العلمانية التي أغرقت الحائرين في دوامة الشك المنبثق من مدار العقل البشري المحدود المرتمس في أوحال المادية المفرطة حتى انزاحت عن وجهها وعن محتواها كل أنوار الهداية بيقين الإيمان المنبعث من وحي الاله المطلق.

اتخذت الشرعية في فكر الإمام أبعاداً تجاوزت الى حد بعيد تقييدات الخطاب الغربي ومقولاته في هذا الشأن ، حيث استندت الى أصول مقدسة مستمدة من وحي القران وواحة النبوة  فاكتسبت طابعا شموليا متوحدا في مواجهة النظرة التجزيئية للفكر الغربي في هذا المضمار .

بعبارة أخرى إن الإمام الحسين استلهم مقاصد الرسالة النورانية  للقران لإرساء دعائم الاساس المقدس للشرعية على قاعدة رصينة من الحق المنغرس في الإيمان المطلق بوجوب النهوض بمتطلبات الدور الرسالي الذي شرع به المصطفى (ص ) ، مشفوعا بمجال بديل او مكمل مداه القدرة على الانجاز من جانب السلطة. وهكذا كان منطلق الرؤية الحسينية الى اساس الشرعية في اية سلطة سياسية منغرساً في واحة النبوة ومهبط الكتاب ومقالته (ع) : ((نحن حزب الله الغالبون وعترة رسول الله الأقربون وأهل بيته الطيبون واحد الثقلين الذين جعلنا رسول الله ثاني كتاب الله تبارك وتعالى الذي فيه تفصيل كل شي ، لاياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والمعول علينا في تفسيره ولا يبطئنا تأويله بل نتبع حقائقه ، فأطيعونا فان طاعتنا مفروضة اذ كانت بطاعة الله ورسوله مقرونة ( وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فان تنازعتم في شيء فردوه الى الله والرسول )) تدل على الجوهر المقدس الذي ينبغي ان تقام عليه اية سلطة . ومع ابتعاد الناس عن ذلك الجوهر المقدس تتآكل حدود الشرعية ؛ وبالمخالفة فان مسؤولية الكشف عن أبعاد تلك الشرعية وتداعيات التقصير عن الالتزام بمتطلباتها ينعقد بمستوى رفيع من الإيمان  بالمحتوى المقدس لرسالة الإسلام وإمامة المعصوم وليس أدل على ذلك من قوله عليه السلام (أيّها النَّاس ، إنَّكم إن تَتَّقوا الله وتعرفوا الحقَّ لأهله يَكن أرضى لله ، ونحن أهلُ بَيت محمد أوْلَى بولاية هذا الأمر من هَؤلاءِ المدّعين ما ليس لهم ، والسائرين بالجور والعدوان) .

وتظل الشرعية شعارا معقودا بحبائل الافتراضات النظرية ما لم تجد سبيلها العملي الى الترجمة على ارض الواقع عبر آليات تنسجم مع هذا الأخير وتستجيب لإرهاصاته ، ويبلغ التفاعل مع نسق الشرعية ذروته عند مؤسسة السلطة.

ويتحقق المفهوم الحسيني للشرعية ومسارها الواقعي عبر نهج بنيوي تكاملي  يسير على خطين يتكاملان عند بؤرة الانقياد  لتعاليم الإسلام  ؛ يتحقق المجال الأول بادراك الأصل المقدس للحكم من خلال إقامة الحاكم لحدود الله  ، فان لم يفعل ابتعدت دالة الشرعية عن مجالها المحوري لتلج المجال الثاني في إقامة وإدامة المستوى الشرعي للسلطة عبر اعتماد دالة الانجاز كأساس بديل لتقييم شرعية السلطة عند استيفاءها لمعايير مثل عدالة الحاكم وقدرته على إسعاد شعبه .

 ومع إمعان النظر في المدرك الحسيني لبنية الشرعية يتراصف في المدى المنظور نسق تراتيبي يستوي على مستويين مترابطين ؛ يتعلق الأول ببنية السلطة وسياستها مع الرعية . وهذا يستلزم في المقام الأول تحري الشرعية في اختيار الحاكم ، ولاحاجة بنا لتأكيد الأساس المقدس كمعيار رئيس في تعيين الحاكم الشرعي.

وفي المقام الثاني يستلزم تحري الشرعية في سياسة الحاكم مع الرعية . فاذا استوفى الحاكم الشرطين معا ، فقد استمسك بالعروة الوثقى لبناء الشرعية ، وإلا جاز الاحتكام او الارتكان الى الشرط الثاني في الاكتفاء بالنظر الى سياسة الحاكم مع رعيته وفق معايير شخصها  الامام عليه السلام ببلاغته الفذة في أولى رسائله الى أهل الكوفة عن الصفات التي يجب أن تتوفر فيمن يرشح نفسه الى امامة المسلمين وادارة شؤنهم حين قال (ع) :

” فلعمري ما الامام إلا العامل بالكتاب، والآخذ بالقسط، والدائن بالحق، والحابس نفسه على ذات الله ” .

وعند تحديد مجال الرؤية الحسينية المقدسة لخطوات بناء الشرعية لمؤسسة السلطة تبرز في المدى المحددات الآتية  :

  1. النسب الهاشمي المحمدي حيث آمن الامام الحسين (ع) – كابيه – أن العترة الطاهرة أولى بمقام رسول الله (ص) وأحق بمركزه من غيرهم، لانهم أهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة، بهم فتح الله، وبهم ختم – على حد تعبيره – وقد طبع على هذا الشعور وهو في غضون الصبا، فقد انطلق الى عمر وكان على منبر رسول الله (ص) فصاح به. “انزل عن منبر أبي رسول الله لا منبر أبيك “.

2- الإيمان الراسخ بثوابت الإسلام والانقياد التام لتعاليمه ، أي بإحراز المعنى الحقيقي للإيمان وليس الاكتفاء بالعقيدة المحنطة بالقلب .

3- العلم والحكمة وحسن التدبير.

4-                العدل والإنصاف والرحمة مع الرعية ، فلو لم يكن الحاكم عادلا ملتزما بالدين عاملا بالحق لزم نقض الغرض من المحالات العقلية على الشارع الحكيم ومن القبائح العقلانية على غيره . وقد أوجز الإمام هذا الغرض بقوله عليه السلام : (((إِنِّي لا أرَى المَوتَ إلا سَعادةً ، وَالحَياةَ مَع الظالمين إِلاَّ بَرَماً).

5-                الشجاعة بشروطها الجامعة .لقوله عليه السلام في استقباح صفة الجبن : ((  شـر الملوك .. الجبن عن الأعـداء )) وباستنطاق مفهوم المخالفة تتأكد سمة الشجاعة التي رامها الإمام في الحاكم الشرعي .

والواقع ان تلك المعايير تشكل منظومة متكاملة من القيم التي لايمكن التغاضي عن واحدة منها على الأقل عند اختيار الحاكم ولايقع خلف التهاون بها الا غياب الشرعية ولزوم التغيير بالوسائل التي دلنا عليها الإمام الحسين عليه السلام .

وبتوظيف مفهوم المخالفة تنتكس مفردات الشرعية في النظام – وفقا لرؤية الامام – عندما تغيب عن الحاكم شروط الايمان والعدل  وينفتح أفق الحاجة لإدراك التقويم لمسار الشرعية بالوسائل المتاحة وقد عبر الحسين عليه السلام عن هذه الحقيقة بالقول: ((يا ايها الناس ان رسول الله (ص) قال (من رأى سلطانا جائرا مستحلا لحرم الله ناكثا لعهد الله مخالفا لسنة رسول الله (ص) يعمل في عباد الله بالاثم والعدوان فلم يغير عليه بفعل ولا قول كان حقاً على الله ان يُدخله مدخله ) ألا وإن هؤلاء- أي الحكام الأمويين- قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن ، وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود ،واستأثروا بالفيء واحلوا حرام الله وحرموا حلاله ، وأنا أحق من غيري)) .

ومع التعمق بالخطاب الحسيني تشخص معايير اخرى لتبديد الشرعية المرتكزة الى الانجاز لا الاصل المقدس عن السلطة حينما يقول عليه السلام ” شـر الملوك .. الجبن عن الأعـداء ، والقسـوة على الضعفاء ، والبخـل عن الإعطـاء . ويضيف الامام في مناسبة اخرى سمة اخرى لنفي الشرعية عن الإمام تتمثل في الظلم – أياً كانت حدوده- وذلك حين قال لابنه علي بن الحسين عليه السلام : (( اي بني إياك وظلم من لايجد عليك ناصرا الا الله جل وعز )).

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين