مبدأ التناسب في قانون العمل

  • جمانة جاسم الأسدي
  • علي قاسم الحمداني

 لا ريب بأن الفئة العاملة تُشكل الغالبية العظمى من أفراد المجتمع، وبالنظر إلى أهمية هذه الفئة الكبيرة أضطر المشرع العراقي إلى وضع نصوصٍ معينة في مدونة قانونية خاصة بهم، وهي مرت بسلسلة من التطور التأريخي إلى أن وصلت لما هو عليه الحال الآن.

فصدر قانون العمل في العراق لأول مرة بموجب القانون رقم (72) لسنة 1958 المعنون بـ (قانون العمال)، والذي ألغي بموجب القانون رقم (1) لسنة 1958، ويلحظ أن هذا القانون قد صدر في ظل الحقبة التي صدر فيها القانون المدني العراقي رقم (40) لسنة 1951، ومن المعلوم إن القانون المدني قد نظم العلاقة التعاقدية العمالية، إلا أنه لم يسهب في تنظيمها ولأهمية هذا الإسهاب ولحاجة المجتمع إليه مما حد بالمشرع أن يلجأ إلى إصدار قانونٍ جديد يكمل النصوص الواردة في القانون المدني، فنصت المادة (150) منه على أن “تراعى أحكام القانون المدني رقم (40) لسنة 1951 المتعلقة بعقد العمل أو بالعامل أو المستخدم أو برب العمل، وقانون أصول المرافعات المدنية والتجارية رقم (88) لسنة 1956 في الأحوال التي لم يرد فيها نص في هذا القانون كما تراعى أحكام اتفاقيات العمل الدولية بعد تصديقها”.

وأيضًا ألغي القانون رقم (1) لسنة 1958 وذلك بصدور قانون العمل الأسبق رقم (151) لسنة 1970، والآخر ألغي بموجب القانون السابق رقم (71) لسنة 1987، وأخيرًا لقد صدر قانون العمل الحالي في العراق رقم (37) لسنة 2015 الذي ألغى هو كذلك ما سبقه من قوانين إلا أنه أستبقى تعليمات القانون السابق إلى حين صدور تعليمات جديدة بالقانون النافذ حاليًا، ومضت قرابة الثماني سنوات ولم تصدر تلك التعليمات لغاية الآن من لدن المشرع !

 ويلحظ بأن تلك التشريعات المتعاقبة المنطوية في بطونها النصوص المتطورة باستمرار التي صاحبت هذا القانون منذ نشأته ولغاية الآن، لها ما يبررها. إذ أن هذا القانون يعكس أثر الظروف التي يعيش فيها المجتمع في بلاد معينة، فقد ورد في الأسباب الموجبة للقانون النافذ رقم (37) لسنة 2015 من أنه “… ولمضي مدة طويلة على سريان قانون العمل رقم (71) لسنة 1987 وكون أغلب أحكامه لا تنسجم وطبيعة المرحلة الراهنة فضلاً عن تعارضها مع الكثير من معايير العمل الدولية التي صادقت عليها حكومة جمهورية العراق والعمل على توسيع ثقافة العمل وأخلاقياته لضمان الانسجام والتكامل بين الحقوق والواجبات كقاعدة للانطلاق نحو العمل اللائق…”. فصدرت المدونة القانونية الخاصة بهذه الفئة حاملةً نصوصًا ذات معنى وفحوى، مهمتها تنظيم شؤون العمال من حيث ما يستحقونهُ من حقوق وما تفرض عليهم من واجبات وضبط العلاقة العمالية ما بين شخص العامل وصاحب العمل سواء أكانت علاقةٍ فردية أم جماعية.

فإن هذه العلاقة العمالية هي علاقة أساسها العقد، وهو قلبُها النابض، فلولاه لما ولدت إلى النور، بالرغم من التدخل الكبير للدولة في تنظيمها لتلك العلاقة مما حد إلى تقييد مبدأ سلطان الإرادة في تنظيم بنود التعاقد سواء فيما يخص الأجور وأوقات الراحة وساعات العمل والإجازات على اختلاف أنواعها ومع إلى ذلك، إلا أن هذا كُله لا ينتزع منها الصفة التعاقدية، وما ذلك التقييد إلا من أجل ضمان وسيلة قهرية فعالة مصاحبة للقانون تدعهُ وتساعدهُ على أن يأخذ مداه وأحترامه بين العمال وأصحاب العمل على حدٍ سواء.

وما دامت هذه العلاقة تتصف بأنها علاقة تعاقدية، إذن فهي تخضع لمبدأ التناسب. هذا المبدأ الذي يلعب دورًا مهمًا في فروع القانون الأخرى كالقانون الإداري والدولي وكذلك الجنائي. ولقد تقرر هذا المبدأ بصورة أكثر صراحة بنصوصٍ كثيرة في القانون المدني العراقي، والذي يعني بمفهومهُ بظل هذا القانون الأخير، هو أن تكون الحقوق والالتزامات لكل من الطرفين متناسبة مع ما يترتب بذمة كل منهم من حقوقٍ والتزاماتٍ متقابلةٌ، وهذا التناسب يتقرر إما بموجب النص القانوني، أي أن يشرع المشرع إلى وضع نصوص قانونية تحد من إرادات المتعاقدين أو يترك المشرع تحديدهُ إلى السلطة التقديرية لمحكمة الموضوع بناءً على ما يتراءى للقاضي الناظر للدعوى المعروضة أمامهُ من ظروف تُحيط بها. غير أن قولنا هذا لا يعني إن الإرادة بمقتضى مبدأ التناسب ستكون والحالة هذه بمثابة العدم، بل أنها ستبقى موجودة ولها كيانها واستقرارها لتنظيم العقد، وما يؤديه هذا المبدأ هو التوافق أو الملاءمة بين كل من العناصر الذاتية والموضوعية للعقد المزمع إبرامه، لأن المشرع قد يرى بأن الضرورة تقتضي أن يقوم بالتدخل لمصلحة الطرف الضعيف في العلاقة العقدية فيقيد ويُحظر على الطرف المتعاقد القوي من اضفاء بنود معينة يقحم بها رقبة الطرف الضعيف فيندفع إلى قبولها مستغلاً حاجتهُ بصورة مشوهة لا يقبلها مبدأ العدالة العقدية بل ولا يقبلها شخصًا عاقل ذو أخلاقٌ وضميرٌ يَشعُرْ. ولأهمية ذلك فقد أعتبر قانون العمل بموجب البند ثانيًا من المادة (14) بأن كل شرط في عقد أو اتفاق يتنازل بموجبه العامل عن أي حق من الحقوق المقررة له بموجب القانون يُعدْ باطلاً أي أعتبره المشرع لغوًا لا ينتج أية أثر.

إذن فالتناسب هو من المبادئ التي تم الاعتراف بها في إطار العلاقة العقدية، خاصة عندما أصبح رضا الأطراف المتعاقدة ليس بالعنصر الوحيد المتحكم في قوة العقد الملزمة، إنما هنالك مبادئ أخرى مكملة للإرادة، فأخففت من آثار هذا المبدأ فيما إذا إساء أحد المتعاقدين استعماله، ودون أدنى شك أن تلك المبادئ تعمل على تأمين التوازن العقدي بمفهومهُ الواسع. والأخير لا يتحقق إلا إذا كانت المنفعة وراء العقد متناسبة مع ما يحصل عليه المتعاقد الآخر، لأن عقد العمل إذا كان هدفهُ المنفعة العادلة حينها أصطبغت على العقد صبغتهُ النفعية المشروعة، حينها تتحقق لدينا العدالة العقدية سواء من حيث جوانبهُ الاقتصادية أو الاجتماعية أو المالية أو الفنية بين المتعاقدين. وهذا هو مبدا التناسب الذي يعمل على تقويض سلطة المتعاقدين، للحفاظ على توازن إبرام تلك التعاقدات بصورة عادلة ومشروعة. وفي ذلك نصت المادة (2) من قانون العمل النافذ بأن هدف القانون يتمثل بتنظيم علاقات العمل بين العمال وأصحاب العمل ومنظماتهم بهدف حماية حقوق كل منهما وتحقيق التنمية المستدامة المستندة إلى العدالة الاجتماعية والمساواة وتأمين العمل اللائق للجميع دون أي تمييز. غير أنه لا يعتبر تمييزًا أي ميزة أو استثناء أو تفضيل بصدد عمل معين إذا كان الغرض مبنيًا على أساس المؤهلات التي تقتضيها طبيعة هذا العمل (م8/ثالثًا).

وعلى أساس ذلك فأن مفهوم مبدأ التناسب في قانون العمل لا يخرج عن كونه تناسب حقوق العامل والتزاماته، فحقوق العامل والتزاماته في الميزان المرجوحة كفته، فلا ترجح الكفة الثانية على الأولى، ويسمح بترجيح الكفة الأولى على الثانية. ونقصد بذلك (برجوح الكفة الأولى على الثانية) هو ثقل الحقوق المقررة للعامل بمقابل الالتزامات المفروضة عليه. وأساس ذلك هو أن هذا المبدأ نطاق تطبيقهُ في قانون العمل يتباين عنه في القانون المدني بحسب ما قصده المشرع وابتغاه من مقاصد لحماية العامل بالدرجةِ الأساس، فأن هذا المبدأ مقرر بظل قانون العمل لمصلحة العامل فلا أهمية له إذا كان صاحب العمل قد أعطى حقوقًا للعامل بصورة تزيد عن ما محدد قانونًا من وجهة نظر المشرع والذي رأى إبتداءً بأن هذا الحق هو أدنى درجة من الدرجات تُشكل التناسب بين حقوق العامل والتزاماته، فلا يجوز أن يخالف صاحب العمل ذلك ويسمح له بالزيادة من حقوق عمالهُ كيفما شاء ذلك. وهذا ما أشار إليه المشرع بموجب المادة (14/أولاً) من قانون العمل بالقول: بأن “تمثل الحقوق الواردة في أحكام هذا القانون الحد الأدنى لحقوق العمال ولا تؤثر تلك الأحكام على أي حق من الحقوق التي تمنح للعامل بموجب أي قانون آخر، أو عقد عمل، أو أي اتفاق، أو قرار إذا كان أي منهما يرتب للعامل حقوقًا أفضل من الحقوق المقررة له بموجب أحكام هذا القانون”.

 فأداء العامل للعمل في المنجم بطبيعة الحال يختلف عن أداءهُ لمن يعمل في المصانع والمتاجر وهذا يُحتم أن تكون الحقوق متباينة بحسب طبيعة المكان الذي يعمل فيه العامل بما يتناسب مع الظروف المحيطة بالعمل، فيلزم صاحب العمل مثلاً أن يُقرر أجرًا متناسبًا مع ما يبذله العامل من جُهد، كذلك أن أجر العامل الحدث مختلف تمامًا عن أجر العامل البالغ، والحال كذلك في الإجازات وساعات العمل وأوقات الراحة التي تتناسب بحسب طبيعة العمل الذي يؤديه العامل، أما إذا افترضنا بأن صاحب العمل قد خُصص للعامل أجرًا يقل بدرجة كبيرة عن ما قدمه العامل من جهد أو أعدم أو انتقص من حقوقه، فبين هذه الحالة وتلك يصطبغ العقد بصبغة عدم التناسب مما يجعل صاحب العمل مسؤولاً قانونًا قبل العمال الذي يعملون تحت أمرتهِ، والجهات المتولية للتفتيش والمراقبة والتي أناط بها القانون تلك المهمة لمخالفته لقاعدة آمرة، وفي ذلك نصت المادة (126) من قانون العمل “تخضع المشاريع وأماكن العمل المشمولة بأحكام هذا القانون إلى تفتيش العمل تحت أشراف وتوجيه الوزارة”. وكذلك المادة (127/أولاً/أ) التي أناطت بقسم التفتيش مهمة تأمين إنفاذ أحكام هذا القانون والتعليمات الصادرة بموجبه المتعلقة بظروف العمل وحماية العمال وحقوقهم اثناء قيامهم بالعمل.

ومن تطبيقات مبدا التناسب في قانون العمل النافذ ما أشارت إليه المادة (39) المنظمة لعقد العمل الجزئي، فنص البند رابعًا منها على أن “تحتسب الحقوق المالية وأيام الإجازات السنوية للعمال العاملين بعقد عمل جزئي بما يتناسب بين ساعات العمل والأجر.

وأيضًا ما أشارت إليه المادة (75/رابعًا) بأن “يستحق العامل إجازة عن جزء السنة تتناسب مع ذلك الجزء”.

بالإضافة إلى أن مبدأ التناسب تزداد أهميتها في العقوبات الانضباطية المفروضة على العامل، إذ يجب أن تتناسب تلك العقوبة مع المخالفة التي أرتكبها العامل، وإلى ذلك أشارت المادة (138/ثالثًا) من أنهُ “يجب أن تتناسب العقوبة الانضباطية مع جسامة المخالفة التي أرتكبها العامل”.

كما واشارت المادة (63/خامسًا) من ضرورة أن “يُعدل الحد الأدنى من الأجر من وقت لآخر ليتناسب مع تكاليف المعيشة والظروف الاقتصادية الأخرى، وتجرى المراجعة الدورية كل سنتين”.

كما أن على الجهات الحكومية المعنية بقسم التشغيل عليها أن تراعي مبدأ التناسب سواء من جهة الباحثين عن العمل أو من جهة أصحاب العمل، فمن جهة الباحثين عن العمل فعلى قسم التشغيل أن يساعدهم في إيجاد العمل الذي يتناسب مع مهارتهم المهنية وقدراتهم العقلية والبدنية، وأعطى للباحث حق رفض العمل الذي رُشح له إذا كان هذا العمل لا يتناسب مع مهنته ودرجة مهارته، على أن تكون لديه أسباب موضوعية تبرر وجه عدم التناسب. أما من جهة أصحاب العمل فأن قسم التشغيل يتولى بمساعدتهم في إيجاد العمال المناسبين للأعمال التي ستوكل إليهم.

ومن النصوص القانونية المنظمة للعلاقة العقدية العمالية في القانون المدني النافذ التي اشارت إلى مبدأ التناسب ما جاءت به المادة (910) التي ألزمت العامل الموكول له العمل الذي يمكنه من معرفة عملاء رب العمل أو الاضطلاع على اسرار أعماله، جاز لصاحب العمل أن يتفق مع العامل بأن لا يجوز لهُ بعد إنتهاء عقد العمل المبرم بينهما أن يقوم بمنافستهُ، على أن يقرر بصورة عقد مبرم بينهما وأن يتضمن تعويضًا يتناسب مع مدى هذا القيد الذي أورده صاحب العمل على حرية العامل في العمل مستقبلاً.

فمن هنا يظهر أهمية مبدأ التناسب في تنظيم العلاقة العمالية والحفاظ على توازنها وصيانة الحقوق والالتزامات ما بين العمال وأصحاب العمل.