بقلم: الدكتور خالد عليوي العرداوي.
22/11/2024
وجد القانون في حياة البشر للحفاظ على حقوقهم، وتنظيم حرياتهم وعلاقاتهم ومؤسساتهم، فالقانون يوفر النظام للناس، وغيابه يعني الفوضى وضياع الحقوق، ولذا أوصى الامام علي عليه السلام من حضره في أيام احتضاره بالقول: ” اوصيكم بتقوى الله، ونظم اموركم…”، ونظم الأمور لن يتحقق الا بالقانون؛ فبعد خوف الله سبحانه وتعالى، لن تجد أفضل من القانون رادعا للإنسان من الاعتداء على أخيه الانسان، بل ان بعض المجتمعات ضعيفة الوازع الروحي تكون خشيتها من القانون الذي تسهر على تنفيذه سلطات حازمة وقوية ونزيهة أكثر من خشيتها من خالقها؛ مما يفسر سبب سيادة الأمن والاستقرار فيها، واهتزازه في مجتمعات أخرى أشد منها تعلقا بالقيم الروحية، ولكنها أقل منها احتراما لسيادة لقانون. وبدون سيادة القانون لا وجود للنظام في حياة الامم، وبدون النظام لا مكان لها في السيادة الحضارية، ولذا قيل: ان النظام هو القانون الأول في العالم.
وعلى الرغم من الأهمية الفائقة لسيادة القانون، تجد ان هناك بعض الأمم والشعوب لا تعيرها الاهتمام اللازم، ويستبد بأفرادها وحكامها ومؤسساتها الشعور باللامبالاة، والتراخي، وعدم الاحترام للقانون، بل غالبا ما تصبح الكثير من نصوص القانون مجرد مواثيق محفوظة فوق الرفوف، ولا تكتسب الرسوخ في العقول والضمائر، وفي تنظيم علاقات الافراد والمؤسسات، حتى لو كان بعضها جيدا وعادلا.
بناء على ما تقدم، ما هي الأسباب الكامنة وراء عدم احترام سيادة القانون، لاسيما في مجتمعاتنا العربية والإسلامية؟
ان الأسباب كثيرة، يمكن الإشارة الى الأبرز منها، وهي:
- اجنبية القانون بالنسبة للمجتمع، فمعظم مجتمعاتنا العربية والإسلامية لم تخض نضالها الخاص بها من اجل بناء دولتها الحديثة، وغالبا ما كان ادراكها لهذه الدولة مرتبطا بالنضالات التي خاضتها الشعوب الغربية، فوصلتها الدولة الحديثة كقوالب مستوردة من تجارب شعوب أخرى، والأكثر سوء وصولها مع وصول الحملة الاستعمارية لهذه الشعوب في مطلع القرن التاسع عشر وما تلاه. وعلى الرغم من محاولتها تقليد المستعمر في قوانينه ومؤسساته، الا أنها في الصميم بقيت تضفي قدرا هائلا من عدم الشرعية عليها، وبقيت الدولة الحديثة – دولة القانون والمؤسسات- مجرد ظاهرة فوقية يجري التشكيك بها دائما، علنا ام ضمنا، فهي دولة اضطرار لا دولة حاجة، ولذا لم تنل قوانينها الملازمة لها احترامها المطلوب لدى الناس أولا، ولدى القوى المنفذة لها ثانيا.
- سلطوية القانون، وهي ان معظم القوانين المشرعة في مجتمعاتنا كانت -ولا زالت- أصداء لحاجات وميول القابضين على السلطة، لا حاجات ومصالح المجتمع بالدرجة الأولى، فهي نازلة من فوق (السلطة)، وليست صاعدة من تحت (المجتمع)، وتصدر وفقا للمسلمات السياسية والأخلاقية للحكام، ولذا صارت طاعتها والخضوع لها اجتماعيا محل شك؛ لأنه كما يرى الفيلسوف الألماني (كانط) ان إرادة المجتمعات لا تذهب الى الخضوع الى القوانين التي لا تجدها صادرة من مسلماتها الأخلاقية، بحيث تشعر أنها نفسها مشرعة لهذه القوانين.
ان الشعور الدائم لمجتمعاتنا بتحكم حكامها بمصيرها زرع فيها ميلا دائما الى عدم طاعة واحترام القوانين الا عند الخوف، ولذا ساد فيها التحايل على القوانين ومخالفتها وانكارها، اعتقادا أنه شطارة وذكاء متى كان ذلك ممكنا. - ازدواجية القانون، وهي من اسوء الأمور التي تدفع الفرد دفعا الى عدم احترام القانون؛ فالانتقائية في تطبيق القانون تعني عدم تطبيقه بعدالة بين الناس بصرف النظر عن: غنيهم وفقيرهم، قويهم وضعيفهم، جاهلهم ومتعلمهم…الخ.
ان القانون الذي يطبق على بعض الناس دون البعض الاخر، غير جدير بالاحترام، ويفتقر الى الثقة بمؤسسات انفاذه، واستمرار ذلك يفتح صندوق باندورا لكل الشرور الاجتماعية، فيقود المجتمع والدولة نحو الخراب، آجلا ام عاجلا، والمصداق لذلك قول الرسول محمد (ص) الذي قال فيه: ” إنما اهلك من كان قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد…”. - تعدد القوانين، أي وجود أكثر من منظومة قانونية في المجتمع الواحد؛ لأسباب دينية أو اجتماعية … بحيث كل منظومة تحاول فرض نفسها على المنظومة الأخرى والتشكيك بشرعيتها.
ان اختلاف المنظومات القانونية في المجتمع الواحد يقود الى تقاطع المصالح بين الافراد والمؤسسات؛ نتيجة اختلاف الميول والاهواء وظهور اشكال مختلفة من الصراع الاجتماعي الباعث على الفوضى والارباك، وكل ذلك سينعكس سلبا على احترام القانون الرسمي للدولة. وعليه لا يمكن تصور احترام الفرد للقانون الرسمي عندما يكون تحت تأثير قوى تشكك فيه وتدعوه لمخالفته والانقلاب عليه. - ضعف سلطات انفاذ القانون؛ فالقوانين ليست مجرد نصوص تشرعها الهيئات التشريعية للدولة، بل هي تمثل الإرادة العامة للمجتمع، وهي إرادة واجبة التنفيذ بحزم وعدل، وعندما تعجز هيئات انفاذ القانون عن تنفيذ هذه الإرادة، فهي تحكم على نفسها بالفشل والضياع، وتكشف عن وجود فجوة خطيرة بين الهيئة التشريعية والهيئة التنفيذية في الدولة الواحدة، وكلما زادت هذه الفجوة زاد شعور الناس بأن حكوماتهم غير جديرة بالمهام الموكلة اليها؛ كونها ضعيفة وعاجزة وفاشلة، مما يبعدهم عن الاحتكام لقوانين ومؤسسات لا تحميهم وتحفظ حقوقهم، واللجوء الى وسائل أخرى للحماية كالعشيرة أو الجماعة الدينية أو الجماعة المسلحة او مافيات الجريمة المنظمة عند الضرورة.
كيفية معالجة مشكلة عدم احترام سيادة القانون
لا تبدو الحلول واعدة لحل مشكلة متجذرة ومستمرة وخطيرة كمشكلة عدم احترام سيادة القانون في مجتمعاتنا، ولكن بداية الحل تكون من خلال:
- إدراك أهمية احترام القانون، وارتباطها المفصلي بالسيادة الحضارية للمجتمع، فأي مجتمع يتطلع للسيادة الحضارية في العالم عليه ان يتشرب -افرادا وحكومات-سيادة القانون، وجعلها السبيل الصحيح نحو صناعة الحياة والمستقبل الأفضل المرغوب فيه من الجميع، ووضع السياسات والاستراتيجيات والبرامج، وتشكيل المؤسسات، وتشريع القوانين المناسبة لتحقيق هذا الغرض.
- تعديل النظر الى الدولة الحديثة -دولة القانون والمؤسسات- من كونها مجرد تجربة اجنبية مستوردة الى كونها خلاصة التجربة الإنسانية في بناء الدولة، فهذا الاختراع العظيم (الدولة الحديثة) هو أفضل ما وصله العقل البشري في تشكيل السلطة وتنظيم علاقتها بالمجتمع، وهو اختراع يتشاركه جميع البشر، ومن الخطأ وضع الفواصل بينه وبين المجتمع ببث الكراهية والتباعد منه لأسباب ضيقة، ومرجعيات فكرية سطحية.
- تطوير عملية تشريع القوانين لتكون نابعة من حاجات اجتماعية حقيقية لا من مصالح سياسية فوقية ضيقة، ويتطلب ذلك التأني في عملية التشريع، والاستفادة من استطلاعات الرأي العام في فهم حاجات المجتمع، فضلا على أهلية المشرعين للقيام بدورهم التشريعي، فالقوانين المكروهة والتي تعوزها الحكمة غير مفيدة في تعزيز وترسيخ ثقافة احترامها من افراد المجتمع.
- توحيد المرجعيات القانونية، وتقوية هيئات انفاذ القانون، وان تكون القوانين عادلة وتطبق على جميع المواطنين بدون انتقائية او تسويف ومماطلة.