الطائفية والمجتمع المدني
ميكانزمية العمل ومجالات التقاطع
د . سامر مؤيد عبد اللطيف
مع تصاعد اوار التغيير في الدول العربية المصحوب بحركات احتجاجية شعبية معينها الشباب ، تصاعدت – بالمقابل- حالة من إعادة الفرز المجتمعي والسياسي لمجتمعاتها وفق أسس الانتماء الطائفي والقومي والديني ؛ فغدت الشحنة الطائفية لأبناء المجتمع الواحد ، أعظم مشكلة بنيوية تهدد بتفتيت النسيج الاجتماعي والبناء الوطني والمدني لهذه الدول .
وعند تحليل المبنى اللغوي للطائفية نجد انه ذو مصدر صناعي مشتق من لفظ (طاف، يطوف طوافا، فهو طائف) . وبهذا فالطائف يبقى ملازما ملتصقا بما يطوف أو يدور في فلكه؛ كما الجزء من كل لا فكاك له منه. وإذا كان الأمر ماديا يرتبط بدوران الجزء في إطار الكل، فإن الأمر سيتخذ المنحى ذاته بقدر تعلق الأمر بالطائفي فكرا وهو اللفظ الذي يشير إلى كل ما ينسب إلى الطائفة. وطبعا نقصد بالطائفة: جماعة من الناس أو فرقة منهم على أن يكون الرابط بين مكونات الطائفة ارتباط كل طرف (شخص) فيها بطريقة التبعية السلبية.
وإذا ما كان انتماء الإنسان إلى طائفة أو مذهب معين لايجعله بالضرورة طائفيّاً ، فانه يصبح كذلك ، عندما يسعى بأي عمل للإضرار بحقوق الطوائف الأخرى ويتخذ سلوكاً يحاول من خلاله إكساب طائفته تلك الحقوق التي تكون لغيرها تجاهلاً لها وتعصباً ضدها . أي بعبارة أخرى إننا لا نستطيع اتهام الطائفية بأنها شر مطلق ذلك أنها جزء من التركيبة الإنسانية والفطرة البشرية، وهي ربما تكون مفيدة في حالتها الطبيعية المعقولة [1]، ومع ذلك ربما تنزلق إلى دائرة الإفراط والانحراف والسلبية؛ في الحالة الشاذة وغير المعقولة وهي الحالة المرفوضة ؛فتضحى الطائفية لون من ألوان العصبية، التي منها العصبية القومية والدينية والمذهبية والقبلية والعنصرية والسياسية والإيديولوجية وغيرها. وهذا ما عبر عنه الحديث الشريف في بيان القدر المقبول من القدر غير المقبول من كل ذلك، إذ قال صلوات الله وسلامه عليه: «ليست العصبية أن يحب المرء قومه، بل أن يرى المرء شرار قومه خيرا من خيار قوم آخرين».
وما تقدم لاينفرط عقده عند استنطاق المعنى الاصطلاحي للطائفية ، اذ نجد انها قد تعرف على انها : “التعصب لأفكار ومعتقدات تنتسب في الأصل إلى دين معين، دون آخر , أو مذهب دون آخر”.
ومما تقدم يمكن تشخيص مستويين للتصنيف الطائفي . ينبني المستوى الأول على الانتماء الطبيعي ( الفطري ) لطائفة بعينها دون ان يتقاطع ذلك مع حقيقة التعددية او متطلبات التعايش الايجابي البناء مع الطوائف الأخرى في المجتمع الواحد ؛ أي بعبارة أخرى إن طائفية المجتمع تعني تعددية طوائفه وقبول هذه التعددية كحقيقة موضوعية تنتجها طبيعة اختلاف الناس بمعتقداتهم وهوياتهم وثقافاتهم، اذ لا يمكن حمل الناس جميعهم على عقيدة أو آيديولوجيا معينة بغية الظفر بالتجانس. والطائفية بمضمونها الاجتماعي هذا ليست منقصة طالما عبرت عن حالة طبيعية من انتماء الإنسان الى وسط عقائدي او فكري ما ينسجم مع الخط العام لفكره وتكوينه الاعتقادي المكتسب او حتى الموروث .
أما المستوى الثاني المستهجن فهو ما يسمى بـ(الطائفية السياسية) بوصفه منهجاً يقوم على تسييس الانتماء الطائفي للمواطن وأدلجته في الحياة السياسية على مستوى الأفكار والمجتمعات والسلطة ؛ وذلك عندما يوظف البعض المشاعر الطائفية المتولدة عن ذلك الانتماء الطائفي تحت شعار الدفاع عن حقوق طائفته لحشد تأييد أنصارها لتحقيق مكاسب سياسية خاصة او ضيقة.
والواقع أن التسييس المذهبي قد يضطر الطرف الثاني أن يواجهه بتسييس مذهبي مقابل له، فيساهم تصعيد وتيرة منهجي التسييس المذهبي المتقابلين في تصعيد العواطف الطائفية والعواطف الطائفية المضادة، مما يمثل وقودا صالحة لإشعال الفتنة، عندما تتضافر معها عوامل أخرى توقد سوية فتيل اللهيب الملعون.
ومن ذلك الأساس ستعمل الطائفية ضمن مجالها السياسي على إقصاء المواطنة كرابطة عضوية وحيدة للدولة واستبدالها بالرابطة الطائفية في أصل إنشاء الحياة السياسية وإدارة مفاصلها وحصد أهدافها ، وفي تكوين الدولة وفي إقامة هياكلها وتنظيم شؤونها ومصالح مجتمعها ، متجاهلة بذلك أنَّ الوحدة الأساس في الدولة هو الفرد المواطن وليس الجماعة الفرعية، وأنَّ أدنى محورية ولاء للجماعة الفرعية على حساب الوحدة العضوية الفردية (المواطنة) سيصادر وحدة أمة الدولة ويقضي على الدولة الوطنية بالتبع. وهكذا تغدو الطائفية سلاحاً فتاكاً يهدد وحدة وحدة الدولة واليات بناء المواطنة فيها وهنا سيتجسم المحتوى الخطير للطائفية والذي سيتقاطع بالضرورة مع بنية والية عمل ما يسمى بـ(المجتمع المدني)[2]. ولاسيما اذا ما علمنا ان اهم الادوار التي تنهض بها مؤسسات المجتمع المدني تتموضع في زاوية احتواء حالات الاحتقان السياسي والاجتماعي، والتنفيس عنها عبر تفجير الطاقات بصورة إيجابية، واعتماد النهج السلمي في اتخاذ المواقف المختلفة، والتعبير العلني عن القناعات المتباينة.؛ فتوفر قناة للمشاركة الاختيارية في المجال العام وفي المجال السياسي ؛ مثلما تعمل على نشر قيم احترام العمل الجماعي والعمل التطوعي وقبول الاختلاف والتنوع وإدارة الخلاف بوسائل سلمية في ضوء قيم الاحترام والتسامح والتعاون والتنافس والصراع السلمي مع الالتزام بالمحاسبة العامة والشفافية .
وعلى النقيض من هذه الوظيفة المهمة وهذا المناخ السلمي الذي ينهض به المجتمع المدني او يفترض تواجده كاساس ومنطلق لحركته المؤثرة في انضاج شروط الممارسة الديمقراطية وتعزيز روح التسامح والحوار المدني البناء داخل المجتمع ، فان النزعة الطائفية – بمضمونها السلبي المسيس- لن تسهم إلا في إيجاد أجواء الاحتقان وتقطيع سبل الوصال وتزيد من نسب الكراهية بين أفراد المجتمع الواحد لانها تستمد حضورها وتمددها في الذات الاجتماعية من إضفاء الشرعية على متعاطيها مع إلغاء الآخر وتسفيه مبانيه الفكرية والعقائدية ومصادرة حقه بممارسة شعائره وطقوسه الدينية . وهكذا لن يكن سوى التطرف والاقصاء تحت مسمى (التكفير) محصلة لمثل تلك الرؤى والممارسات .
لهذا فان اثار التحرك الطائفي يتجاوز الفرد والمؤسسة إلى العمق الاجتماعي ويضرب بآلامه وأخطاره أعمدة الاستقرار الاجتماعي. وهي أجواء لا يمكن أن تنتج بيئة خصبة وقادرة على احتضان المجتمع المدني ، لان مفهوم الإدارة السلمية للصراع والمنافسة هي جوهر مفهوم المجتمع المدني الذي لايمكن له ان يرى النور الا بتوافر الحرية، أما نموه وتحقيقه لأهدافه فيبقى مرتبطا بطبيعة المحيط الذي يوجد فيه بأبعاده السياسية والاجتماعية والثقافية، وكلما كانت العلاقات التي تسود المجتمع مرتكزة على القواعد الديمقراطية المؤسساتية، ومتشبعة بقيم التعدد والاختلاف، وروح المواطنة، والتنافس في خدمة المصلحة العامة، وحرية الاجتهاد، والمراقبة والمساءلة والنقد، فإن توفر هذه القواعد والقيم يفتح الفضاء الطبيعي لنمو المجتمع المدني وتطوره. وعلى العكس من ذلك حينما تسود قيم الطائفية المشجعة على التطرف والتعصب المنزوي عن منطق قبول الأخر والمرتكن الى تغليب منطق القوة والفرض والإقصاء تنغلق كل آفاق محتملة لإنماء تلك الأجواء التي يتطلبها نشوء المجتمع المدني . أي بعبارة أخرى مثلما يسهم المجتمع المدني في إنضاج شروط الديمقراطية وبلورة قواعدها وترسيخ مرتكزاتها ، فانه أي المجتمع المدني يحتاج هذه الظروف او حتى الحد الأدنى منها ليثمر ويستجيب بفاعلية للواقع الاجتماعي الايجابي .
والواقع ان تفشي الفكر الطائفي – ضمن الإطار الهدام – في مجتمع ما ، وتقدمه في سلم اهتمامات الفرد والجماعة سيجعل منه ( ذات الفكر ) المرجعية والمعيار لسلوك الفرد تجاه الآخر ، وتجاه المجتمع والدولة ونظام الحكم والسياسة المحلية والإقليمية والدولية . وهنا تكمن الخطورة من تحول ذلك الفكر الى مواقف وسلوك في التعامل مع الآخر تتخطى الى حد بعيد الثوابت الوطنية وحتى المفاهيم الأخلاقية والإنسانية بوصفها من أهم دعامات تحقق الوحدة ومتطلبات تامين التعايش السلمي بين أبناء الشعب الواحد.
إنّ التمسك بالبعد الوطني ورفض التبعية يقف على تقاطع مع قوة الدعاية التي تحملها الطائفية السياسية بزعمها التعبير عن أتباع المذهب وأبناء الطائفة وبأن تنسيقها مع نظم سياسية إقليمية يعبر عن مصلحة أبناء الطائفة على حساب وجودها الوطني الذي يمثل استغلالا مزعوما لها..
إن دمج آليات الحياة اليومية للشعب بآليات اشتغال مؤسسات الدولة بوساطة منطق الطائفية وفلسفتها التي تمارسها الحركات السياسية الحاكمة وادعاء أن ذلك يمثل التعددية الطائفية تحديدا، أمر من التزييف والخطورة بما لا يقبل حتى توصيف أنه ادعاء تضليلي… فهذه الفلسفة تعني عمليا تعارضا فعليا هو الأخطر مع الوحدة الوطنية ويعني بالملموس تفكيك وحدة المجتمع وعلاقات مكوناته وطنيا وجعل الحركات المتحكمة بمؤسسات الدولة، طائفة تحتكر السلطة والثروة بصورة مطلقة، وتضع نفسها بديلا للشعب وبمواجهة تطلعاته ومطالبه وحقوقه وهي تمارس جهدها لتشظية الواقع ومشاغلته بصراعات هامشية فيما يجري تعطيل كل حركة شعبية من تنظيمات نقابية وحزبية وطنية ومن جمعيات ومؤسسات مجتمع مدني أو إفراغها من محتواها ومن إمكانات التأثير بل أية إمكانية للعمل إلا من فسحة ضيقة عبر حركات احتكار السلطة أي حركة الطائفية السياسية وهي أحادية نخبوية فوقية مهما تعددت مفردات وأشكال تمظهرها..
وعندها تتحول الطائفية الى مشروع للتفريق والتباعد بين أبناء الشعب الواحد من خلال التعصب للتفكير الطائفي الجمعي الذي يستخدم الدين او أي نسق عقائدي اخر بشكل سلبي ، فيؤدي ذلك بدوره الى احتضار مقومات التقارب والوحدة الوطنية وحتى الرابطة الوطنية التي ينسج منها المجتمع المدني خيمته الآمنة لنشر قيمه في الحوار السلمي والتعايش المشترك بين أبناء الشعب الواحد .
ومع استحكام حلقات النظرة الطائفية الضيقة وتبلورها في صيغة سلوك متعصب يستسيغ الميل الى العنف والقوة والقهر في فرض تصوراته على مخالفيه او حتى القضاء عليهم ، منتجا بذلك حالة من الكراهية المتنامية والمتبادلة والسلوك العنفي الاستجابي من باقي الطوائف او التيارات المستضعفة في المجتمع الذي سيدخل عندها في اتون دوامة من العنف المتبادل وانعدام الاستقرار ، وهو أحد أهم مهددات الأمن العام والسلم الاجتماعي.
لقد أدت مثل هذه الخلافات التي تطورت الى نزاعات طائفية مسلحة تستبيح الدماء والحرمات ؛ فانقسمت بعض المجتمعات انقساماً عمودياً حسب الطوائف ، وغابت مرجعية الدولة الحديثة الرئيسة أعني المواطنة ، وتضاءلت مع غيابها مفاهيم المساواة والعدالة والحريّة على النطاق الفردي ، ومفاهيم الديمقراطية وتداول السلطة وفصل السلطات على النطاق المجتمعي والسياسي .
وإذا كانت بنية المجتمع المدني تتكامل وتتفاعل بايجابية وحيوية ضمن وسط مؤسساتي تحكمه نوابض القانون وضوابطه ، وتستكين حركيته لبيئة مستقرة آمنة ؛ للقيام بدور مهم آخر في مراقبة سلطة الحكومة ومتابعة وانتقاد عملها على قاعدة الحريات المكفولة بطوق القانون ، فان الطائفية وما تنتجه من مضاعفات وانعكاسات ستسهم وبدرجات مختلفة في تآكل القاعدة المؤسساتية للمجتمع المدني عبر إخضاع تلك المؤسسات لمنطقها ولدائرة نفوذها فتتحول هي الأخرى الى أداة للقهر والإقصاء الطائفي، ولن يكون القانون عندها الا مرتعا وملاذا لتمرير الإرادة المتطبعة بطابع طائفي ضيق .وحتى المؤسسة الأمنية ستقف هي الأخرى عند تخوم الانقسام الطائفي ولا تستطيع اتخاذ قرار مهني حرفي في إطار مسؤولياتها عندما يصل الأمر إلى الحدود التي رسمها التقسيم الطائفي سواء جغرافيا على الأرض كما في بيروت الغربية وبقية الضواحي والتقسيمات أم سياسيا عندما يصل الأمر لشخصية محمية من أحد الأطراف والأمثلة هنا تمتد حتى تصل إلى أدنى أدوات التنفيذ والصراع من جنود وأفراد القوى المتضاربة.
ولا يجانب الدكتور فخرو منطق الصواب عندما يقول : “ليس المطلوب أن يتحرر المجتمع المدني من عصبياته أو تضامناته الطبيعية المتعددة، الدينية أو المذهبية أو الإثنية التي تعكس واقع الحال، خاصة في مجتمعات تقليدية، أو خارجة حديثا من التقاليد، وإنما أن تتحرر النخبة السياسية من تماهياتها الجزئية لتتمكن من تجسيد مثال الوطنية وأن تحرر معها الدولة ومؤسساتها من احتمال ارتهانها للعصبيات الخاصة، حتى تتحول بفضل سياساتها الوطنية إلى دولة أمة، أي دولة مواطنيها.”
ومثلما يتغذى مفهوم المجتمع المدني من واقع تعددي مدعم بضمانات الحرية واحترام الحقوق و يعمل تباعا – في الوقت عينه- على رفده بمقومات الاستمرار والفاعلية والتغلغل في الثقافة المجتمعية ، فان الفكر الطائفي بالمقابل لن ينتج الا واقعا ميالا للقمع والإقصاء والتسلط عبر فرض اللون العقائدي الواحد على سلوكيات المجتمع وتوجهاته ، اذ ستشيع الطائفية السياسية فلسفة التبرير لكل ما يصب في خانة فلسفتها ومصالحها الضيقة من أشكال التعذيب والانتقام تجاه المخالفين إلى تعطيل آليات العمل المؤسساتي الديمقراطي كالتداول السلمي للسلطة برفع شعارات مضللة بأحقية طرف طائفي وزعاماته من دون ممثلي المجتمع المدني وطنيا ؛
الأمر الذي يعني تقييد البدائل وخنقها في سبيل إنتاج نمط مشوه من الثقافة المكرسة بأدوات القهر والإبادة غير المستجيبة لمنطق وافتراضات التناغم البناء تحت سقف التنوع وقيم الحوار والتسامح الذي تحتاجه ركائز المجتمع المدني .
وهكذا يتمّ في ظل الطائفية السياسية إطلاق عوامل التخلف والانكفاء الماضوي باتجاه مرحلة مظلمة في تاريخ البشرية هي مرحلة دويلات (الطوائف) او ما قبلها في البحث عن المسوغات التاريخية لاسناد صحة ادعاء هذا الفريق ضد الآخر ومن ثم صياغة إطار فاصل مفترض من الشرعية في إصدار الأحكام وبناء المواقف مع الآخر . أي بعبارة أخرى تشيع الطائفية السياسية فلسفات الفكر الماضوي السلفي سواء باختلاق سلفية مقيتة مرفوضة تمثل بعبعا همجيا عنفياَ يتقاطع مع استدعاء طقسي لمظلومية تاريخية لا بقصد دراستها والاتعاظ منها كما يدعو المنطق العقلي بل لاستثارة أشكال الاحتراب والاقتتال والروح الانتقامي الثأري الذي لا يفضي إلا إلى حرب أهلية تستعيد منطق حرب البسوس وداحس والغبراء (الجاهلية) فكرا ولكنها تؤدي إلى حروب الإبادة الجماعية المعاصرة كارثيةَ وبشاعة..
ومثل هذا الفكر النكوصي او الاسترجاع السلبي للنماذج التاريخي ستضيق في الوعي الجمعي مساحة التفكير العقلاني وإمكانيات التصالح مع الحاضر على ارضية التفاعل الايجابي مع الواقع . وعندها سينزوي الخط العام للتفكير في زوايا ضيقة من التعصب لاتجاه مذهبي او عرقي ما على قاعدة الانتماء السلبي المعرف بالتسليم غير المقيد للمنطلقات الفكرية لهذا الاتجاه او التيار المذهبي او العرقي .
وعند هذا المنحنى الضيق ستتحدد مساحة الحرية التي سيتحرك في مجالها المجتمع المدني ، هذا ان لم ينجرف هو الآخر الى دائرة الاستقطابات الطائفية ليفارق بذلك أرضية المنطق العقلاني والنزعة العلمية المنفتحة للتخطيط والتحرك على اكثر من خط وقناة بعد ضمان هامش المناخ التعددي لهذه الحركة .
تاسيسا على هذا يمكن القول أن المجتمع المدني يتشوق الى المناخ العقلاني المنبني على التفكير العلمي ليدشن أمامه الخيارات المتعددة لبلوغ أهدافه بحرية وانسجام بعيدا عن أي منزلقات او مقيدات فكرية تخلقها الطائفية المقيتة بميولها التعصبية الى نمط من التفكير غير العقلاني المحدد بأحكام مسبقة ومسلم بها مستنبطة من نماذج تاريخية او غيبية غير مثبتة .
وحتى من حاول إضفاء الطابع العلماني على الطائفية بمضمونها السلبي ، اعتمادا على فكرة مفادها ان الطائفية لا تهتم بسلوكيات ولا حتى معتقدات الشخص المنتمي ، فيكفي انتسابه لمجموعة من الناس يحملون هوية هذه الطائفة دون شرط الاعتقاد اليقيني بصحة منطلقاتها العقائدية والفكرية . فالمهم في الطائفية هنا هو التعصب لأفراد الطائفة وليس لعقيدة الطائفة ولا لفكرها ولا لقيمها، بل إن اقتضى الأمر يتم التغاضي على القيم المقدسة للطائفة في سبيل تحقيق مبدأ التعصب لأفراد الطائفة. وإن كان أغلب الطائفيين يأخذون العقيدة كذريعة للتعصب لطائفتهم، وصولا لبلورة قناعة مؤداها أن الطائفية تتشابه مع العلمانية في أنها لا تقيم وزنًا للالتزام بتعاليم الدين ولا حتى الإيمان به ، ولو تعارضت مصلحة الطائفية مع مبادئ الدين فتقدم مصلحة الطائفة، وهي نفس الطريقة التي تتعامل بها العلمانية مع الدين.
فان إعمال المنطق السليم لايؤدي بنا الى التسليم بصحة هذه الفرضية على وجه الاطلاق ، اذ ان اساس النزعة العلمانية في التفكير قد انغرست جذوره في ارضية البناء العقلاني في النظرة الى الاشياء وعللها بعيدا عن الغيبيات التي تذود عنها الاديان السماوية . فما تحمله العلمانية من احكام تتقاطع في احيان مع الاديان السماوية لا تنهض من الافتراض المسبق بعقم الاديان او عداوتها وانما تنهض من بؤرة الركون المفرط للنزعة العقلانية التي تقوم على الادلة الملموسة دون الغيبيات وهذا ما جعل العلمانية تتقاطع مع الاديان .ويكفي للتدليل على هذا المنطلق ما تبنته الموسوعة الفرنسية من تعريف للعلمانية على انها ” حياد الدولة حيال الاديان ” اذ لوكان للعلمانية موقفا سلبيا من الاديان ما سلمت بوجودها قبل ان تاخذ منها موقف الحياد .
ان دوامة التجاذبات والعنف الذي ستنتجه النزعة الطائفية الضيقة ستعصف بالبنى المادية للمجتمع وقدراته البشرية بعد ان أسهمت في تصدع مبانيه الفكرية والمعنوية ؛ فتضيع طاقات المجتمع في مواجهة مخلفات الصراع الطائفي وتتبدد ثرواته في تامين الترسانة المسلحة التي يمكن ان تجابه دوامة العنف المتبادل بين القوى المتصارعة ، مثلما سيدفع هذا المجتمع ثمنا باهضا اخر من افرازات الدمار الذي سيخلفه ذلك الصراع في البنى التحتية . هذا الى جانب نزيف الطاقات والخبرات البشرية التي سيكون مصيرها اما التصفية الجسدية او الهجرة والفرار؛ مما يعني خسارة مضاعفة لذلك المجتمع وتراجعا في كل المجالات المادية والفكرية وانكفاءً مؤكدا وموازيا في معدلات التنمية التي ستتحول مع استطالة أمد الصراع الى تخلفٍ مزمن في بنيان المجتمع ككل . وعندها لن يبق امام المجتمع المدني فرصة واعدة للنهوض بواجبه في تنمية المجتمع وتلبية احتياجات ابناءه مع اندثار تلك الموارد بشطريها المادي والبشري تحت وطأة لهيب الصراع الطائفي . وحتى مع صمود بعض بنى المجتمع المدني في وجه ذلك الإعصار الطائفي فان وجودها سيكون شبحيا يفتقد الى الفاعلية والقدرة على التأثير والتغيير ، أي بعبارة اخرى سيكون بنيان المجتمع المدني جسد بلا روح مصدر طاقتها الحرية والحوار والتعددية واحترام القانون التي يفتقدها بالضرورة أي مجتمع مبتلى بآفة الطائفية .
[1]يقول الإمام علي بن أبي طالب – عليه السلام – :”فإن كان لابد من العصبية فليكن تعصبكم لمكارم الخصال ومحامد الأفعال ومحاسن الأمور التي تفاضلت فيها المجداء والنجداء من بيوتات العرب ويعاسيب القبائل بالخلاق الرغيبة والأحكام العظيمة والأخطار الجليلة والآثار المحمودة” – نهج البلاغة.
[2]اختلفت التعريفات المقدمة للمجتمع المدني باختلاف المرجعيات والاتجاهات الظروف الخاصة لكل من تناوله ومع ذلك يمكن تعريفه على انه “مجموعة من التنظيمات التطوعية الحرة التي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة لتحقيق مصالح أفرادها أو منافع جماعية، ملتزمة في ذلك بقيم ومعايير الاحترام والتراضي والتسامح والإدارة السليمة للتنوع والاختلاف “.